Telegram Group Search
ذكَر اللهُ سبحانه وبحمدِه أنّ المؤمنين باللهِ واليومِ الآخرِ لا يوادّون مَن حادّ اللهَ ورسولَه، ولو كان أقربَ قريبٍ، ثمّ أشار إليهم بوصفِهم، وبيّن ما استحقّوا عنده، فقال تبارك اسمُه: ﴿أولئك كتَب في قلوبِهم الإيمانَ وأيَّدهم برُوحٍ منه ...﴾ الآيةَ.

يا أللهُ! ما أرحم ربَّنا! أعطاه عبادُه الصّدقَ في محبَّتِه، فلم يوالوا إلّا مَن والىٰ، ولا آثَروا أحدًا علىٰ مرضاتِه، ولا وادُّوا مَن حادَّه، فأوفىٰ لهم، وأكرمهم، وأغناهم، وكفاهم، أعطاهم الإيمانَ، وكتَبه في قلوبِهم، وأيُّ شيءٍ مثلُ الإيمانِ، على اللهِ فيه الضّمانُ! ثمّ زادهم فضلًا وكرمًا، فأيَّدهم بروحٍ منه، ووصَلهم بلطفٍ، وهدًى، وتوفيقٍ، ونورٍ، وأخبر عن ذلك بالفعلِ الماضي، ليكونَ عندك شيئًا متحقِّقًا ثابتًا مقطوعًا به مقضيًّا فيه، فبروحِ اللهِ تَحيا قلوبُهم، وبه تستدُّ سواعدُهم، وبه ترشُدُ أعمالُهم، وبه يَغلِبون الأعداء، ويَجلِبون الأنداء.

فيا مَن يخشىٰ علىٰ يقينِه، يريدُ أن يكتبَ اللهُ في قلبِه الإيمانَ، فلا يتزلزلُ ولا يزيغُ! هلمَّ إلىٰ حاجتِك.

ويا مَن يشكو ضعفَ نفسِه، وذلَّتَه، واجتماعَ الأعداءِ عليه، هلمَّ إلىٰ حاجتِك، ما أقربَك منها! إنّ لك مِن اللهِ ناصرًا، وإنّ لك باللهِ مؤيِّدًا، وإنّ رحمةَ اللهِ قريبٌ منك، وإنّ رُوحَ اللهِ ولطفَه طوعُ يديك، وعند ناظريك!

اصدُقِ اللهَ، وأخلصْ له المحبَّةَ، وأفردْه في المولاةِ، وكن سِلْمًا لأوليائِه، وعدوًّا لأعدائِه، تحبُّ بحبِّ اللهِ مَن أحبَّ اللهَ، وتوَالي في اللهِ مَن واليتَ، بوَلاءِ اللهِ، وتُبغِضُ ببغضِ اللهِ مَن حادَّ اللهََ، وتعادِي في اللهِ مَن عاديتَ بعِداءِ اللهِ، فأنت مع اللهِ، وباللهِ، وفي اللهِ، وللهِ.

اللهم ما أحوجَنا إليك، وما أغنانا بك، وما أولانا بلطفِك وعافيتِك وتوفيقِك وهدايتِك، فلا تكلْنا إلىٰ أنفسِنا طرفةَ عينٍ، ولا تقطع عنّا مَدَدَك، وسَدَدَك، اللهم اجعلنا مِن حزبِك المفلحين، واكتبْ في قلوبِنا الإيمانَ والحكمة، وأيِّدْنا برُوحٍ منك، أرحمَ الرّاحمين.
قولُ الله تعالىٰ: ﴿ولله المشرقُ والمغربُ فأينما تولّوا فثَمّ وجهُ اللهِ إنّ الله واسعٌ عليمٌ﴾ فيه إيناسُ الخائفِ، وتسكينُ فؤادِ المرتاع، وتعظيمُ رجاءِ الطّامع، واشتمالُ العبدِ في جميعِ أحوالِه، حيثما كان أينما كان، أنّ اللهَ معه، يعلمُ حالَه، ويرىٰ مكانَه، ويسمعُ نجواهُ، ويحيطُ به بقدرتِه وسلطانِه. وكيف لا يكونُ اللهُ سبحانه كذٰلك وللهِ المشرقُ والمغربُ وبيدِه ملكوتُ كلِّ شيءٍ، وكيف لا يكونُ كذٰلك وأينما تولّوا وجوهَكم فثَمَّ وجهُ الله، وكيف لا يكونُ كذٰلك والله هو الواسعُ العليمُ سبحانه.

ومِن العجَبِ أنّ جُمَلَ الآيةِ الثّلاثَ على اختصارِها دافقةٌ مِن ذٰلك المعنىٰ، مترابطةٌ في إفادتِه ترابُطًا عجيبًا، بأساليبَ متفنِّنةٍ، بُدِئ فيها باسمِ الله، وخُتِم بوصفِه، وتكرَّر اسمُ اللهِ في كلِّ جملةٍ، وحصَل فيها توكيدُ الاستقصاءِ والشّمولِ بما دلّ عليه عطفُ «المغربِ» على «المشرقِ»، ثمّ ما تناوَله لفظُ «أينما» وأشير إليه بـ«ثَمّ»، ثمّ ما صدَّقه مِن اسمِ الله الواسع، واسمِه العليم.

فالّذي في الآيةِ مِن إفادةِ هٰذا المعنىٰ شيءٌ بديعٌ عجيب!

وفي معناها قولُ اللهِ لنبيِّه ﷺ: ﴿وما تكونُ في شأنٍ وما تتلو منه مِن قرآنٍ ولا تعملون مِن عملٍ إلّا كنّا عليكم شهودًا إذْ تفيضون فيه﴾، وقال اللهُ لعبدِه موسى وهارون ابني عمران: ﴿لا تخافا إنّني معكما أسمعُ وأرىٰ﴾، فرَغِب إلىٰ عبادِه المصطَفين أن يستحضروه وأن تشهده قلوبُهم.

واستحضارُ ذٰلك في أوقاتِ الأزَماتِ: هو شأنُ الموفَّقين المؤمنين، كما قال موسىٰ وقد امتلأ قلبُه بما علّمه ربُّه: ﴿كلّا إنّ معي ربّي سيهدينِ﴾، وقال النّبيُّ ﷺ لصاحبِه: ﴿لا تَحزَن إنّ اللهَ معنا﴾.

ولا بدَّ أن يعقُب ذٰلك الاستحضارَ أثَرُه مِن حمايةِ اللهِ، ونصرتِه، وتأييدِه، واستجابتِه، كما حصَل لموسىٰ: ﴿فأنجينا موسىٰ ومَن معه أجمعين ثمّ أغرقْنا بعدُ الباقين﴾، وما حصَل لمحمّد ﷺ: ﴿فأنزل الله سكينتَه عليه وأيّده بجنودٍ لم ترَوها﴾، وانظُرْ كيف ترتَّب ذٰلك علىٰ ما قبله مِن الشّهودِ بالفاءِ الّتي تقتضي أن لا مُهلةَ ولا تراخيَ، فامتلئْ مِن ربِّك، وليكن في ألفافِ قلبِك.
قولُ الله الحكيم العليم: ﴿فرَدَدْناه إلىٰ أمِّه كي تقرَّ عينُها ولا تحزَنَ ولتعلمَ أنّ وعدَ اللهِ حقٌّ ولكنّ أكثرَهم لا يعلمون﴾، هٰذه الآيةُ أصلٌ كبيرٌ في القدر:

- ففيها تبجيلُ اللهِ سبحانه فاعلًا، لأنّه لا يفعلُ إلّا ما فيه صلاحٌ وخيرٌ، وذٰلك ملتمَسٌ مِن ضمير التّعظيم.

واطّرادُ هٰذا الأسلوبِ في القرآنِ وحده كافٍ للمتدبِّر في الثِّقةِ باللهِ، والرِّضا بما يقسمُ لخلقِه، والتّسليمِ لأمرِه سبحانه، وحسنِ الظّنّ به، فإنّه لا عظيمَ إلّا هو، ولا أكبَرَ منه، ولا أعلمَ، ولا أحكمَ، ولا أقدرَ، ولا معقِّبَ لحكمِه، ولا رادَّ لفضلِه.

- وفيها تعليلُ أفعالِ اللهِ سبحانه، بما دلّتْ عليه «كي» مصدريّةً لا تُستعمَلُ إلّا بحرف التّعليل، وإن حُذِف هنا، أو معلِّلةً، وهي أصرحُ، ثمّ ما دلّت عليه اللّامُ في «ولتعلم» معطوفةً علىٰ «كي تقرَّ» مزيدةً لتوكيد التّعليل، والتّقديرُ فيهما: لكيْ تقرَّ ولأن تعلم، أو: كي أن تقرَّ ولأن تعلم.

- وفيها سعةُ رحمةِ اللهِ سبحانه برعايتِه للقلوبِ الضّعيفة، وإذهابِ ما يغشاها مِن ألَمٍ جبَلها عليه بفراقِ مَن تحبُّ، وحزنٍ علىٰ فقدِه، وخشيةٍ لهلاكِه. وهٰذا بيّنٌ مِن إرادتِه سبحانه قرارَ عينِ المرأةِ أمِّ موسىٰ بسلامةِ ولدِها إذْ أعاده إليها فرأتْه معافًى، وإرادتِه ذهابَ حزنِها برجوعِه إليها واتّصالِها به. فقد أسعد اللهُ فؤادَها برجوعِه، وطيَّب خاطرَها بصحبتِه، كما ثبَّتها يومَ البلاءِ بفقدِه، كما قال مِن قبلُ: ﴿لولا أن ربَطْنا علىٰ قلبِها لتكونَ مِن المؤمنين﴾.

- وفي هٰذا الدَّلالةُ علىٰ عظيمِ شفَقةِ الأمّ، وكبيرِ حنانِها علىٰ ولدِها. وإذا تجلّت معه عنايةُ اللهِ بها، ورأفتُه، دلّ علىٰ ما ذكَرْنا أنّ اللهَ أرحمُ، تبارك وتعالىٰ.

- وفيها تثبيتُ اللهِ لعبادِه المؤمنين، وصيانتُه لإيمانِهم، وإذهابُه عن قلوبِهم دواعيَ الكفرِ والرَّيبِ، بما يُريهم مِن آياتِه، ويبسطُ عليهم مِن برَكاتِه، ليزدادوا إيمانًا وإيقانًا، وهو سبحانه الخالقُ للقلوبِ، العالمُ بتقلُّبِها، وتأثُّرِها، فهو يربّي عبادَه ويُطلِعُ عليهم أنوارَ حكمتِه، ويؤنسُ قلوبَهم بأسرارِ قدرتِه، فيتعهَّدُهم بما فيه لهم الطُّمأنينةُ، والسّكينة.

وهٰذا الّذي تضمَّنه قولُه: ﴿ولتعلم أنّ وعدَ اللهِ حقٌّ﴾، بعد أن قال: ﴿ربطْنا علىٰ قلبِها لتكونَ مِن المؤمنين﴾، فاعتنىٰ بها يومَ البلاءِ فثبَّتها، ثمّ خفَّف عنها البلاءَ فردَّ إليها ولدها، وأَظهَرَ لها فضلَه وصدَقها وعدَه.

- وتنزيلُ هٰذه المعاني على القصّةِ، يعطي أنّ موسىٰ عليه السّلام قد دبَّر اللهُ له صغيرًا، وأراد به خيرًا كثيرًا، إذْ أنشأه بين يدي عدوِّه، وصنَعه علىٰ عينِه، ولم يكن هٰذا ممّا يَعلَمُه أحدٌ مِن الخلقِ، ولا يدرون عاقبتَه، وكان اللهُ عليمًا حكيمًا.

- وفي هٰذا تنبيهُ المؤمنين أنّه لا يخلو تقديرٌ مِن لطفٍ، وأنّ اليسرَ تتضمَّنُه طيّاتُ البلاءِ المبين، وأنّ الفرَجَ معجَّلٌ لا محالةَ، وأنّ القدرَ موضوعٌ علىٰ سِرِّ الحكمةِ البالغةِ، وإذا تنبَّهت علىٰ ذٰلك سكَنتْ للأقدار، وركَنت للإقرار.

- وفي تنبيهِ اللهِ المؤمنين، وتذكيرِه العارفين، الّذين مِن شأنِهم أن يَثِقوا بضمانِه، ويأخذوا بأمانِه، ويعلموا ما أَطلَعهم عليه مِن سِرِّ تقديرِه، ويرتقبوا ما قدَّر لهم مِن سريعِ تيسيرِه، ففي ذٰلك دَلالةٌ علىٰ أنّ مَن لم يأخُذْ بالثِّقةِ عن اللهِ، والرّضا بما قضاه، أنّه ليس على الطّريقِ المأمون، ولا العمل المصون.

وهٰذا المعنىٰ هو الّذي خُتمت الآيةُ ببيانِه، إذْ وقَع فيها نفيُ العلمِ عن أكثر النّاسِ، بعد الإطْلاعِ علىٰ بعضِ الحكمةِ، وفيه توبيخُ المتسخِّطين على القدر، الّذين لا يثقون إلّا بما لمَستْه أيديهم مِن محسوسٍ، ولا يَنعَمون إلّا بالمعجَّل مِن متاعِ الدّنيا، وأمانِيِّ النّفوسِ، حبلُهم إلى اللهِ مبتورٌ، ويقينُهم بما عند اللهِ موتور.

- ونظمُ هٰذا المعنىٰ إلىٰ ما قبله يعطي العِظةَ الحسَنةَ، أنّه ينبغي للمؤمن أن ينأىٰ بنفسِه عن المنزلِ الوخيمِ، منزلِ الرِّيَبِ والجهالةِ والغفَلةِ، ويبرأَ مِن نعوتِ مَن نسي اللهَ ولقاءَه، ومَن كان باللهِ وحكمتِه وعلمِه غيرَ عالمٍ، فيفتحَ عينيه لما يدبِّرُ اللهُ، ويعلمَ أنّ فيه الحكمةَ، فيطَّلبَها ليوقنَ، ويتعرَّضَ لأسرارِ اللهِ مِن وراءِ تقديرِه ليطمئنَّ، ويعلمَ أنّه لا يخلو تقديرٌ مِن لطفٍ، ولا يرتفعُ قضاءٌ عن تيسيرٍ، وأنّ العاقبةَ للمتّقين، بالنّصرة والتّمكين، وبالفتحِ المبين، ومتىٰ فعَل ذٰلك كان شارحًا صدرَه بالرّضا والتّسليم أبدًا، وكان تعرُّفُه للأسرارِ ممّا يزيدُه ثباتًا ويقينًا، ووجَد الأسرارَ تنكشفُ له بفضلِ اللهِ مِن لطفِ تقديرِه، وتلوحُ أنوارُها في ما أطلع اللهُ في كتابِه مِن حسنِ تدبيرِه.

والله أعلم.
قول الله: (فأنزل اللهُ سكينتَه على رسولِه وعلى المؤمنين وألزمهم كلمةَ التّقوى وكانوا أحقَّ بها وأهلَها)، كافأهم سبحانه بعد الابتلاء، وبيّن وجهَ المكافأةِ، فذيَّل بقولِه: (وكانوا أحقَّ بها وأهلَها)، فأرشدنا إلى شرطِ الإكرامِ، أن يكون له المرءُ أهلًا، وأن يكونَ به أحقَّ، وهذا على معنى قولِه: (إنّ ربّك هو أعلم بمَن ضلّ عن سبيلِه وهو أعلم بالمهتدين)، وأشباهه.

فمَن أراد تثبيتَ اللهِ، وسكينتَه، ودوامَ توفيقِه ... فليُرِ ربَّه مِن نفسِه التّعلُّقَ بذلك، وليحرصْ على أن يكونَ مِن أهلِه، بطاعةِ مولاه، وإيثارِ ما عنده.
(وهُدوا إلى الطّيّب من القولِ وهُدوا إلى صراطِ الحميد) الكلامُ عن أهل الجنّة، وما يصيرُ لهم ... ودخَل فيه أنّ الطّيّبَ مِن القولِ هو مِن اللّذّاتِ والنّعيم، وأنّ اللهَ هو يهدي إليه كما يهدي إلى جميعِ مراضيه، وأنّ سبَبَه الإيمانُ والعملُ الصّالح ...

فمَن أراد استقامةَ لسانِه، وطِيبَ منطِقه، فليتسبَّب إليه بالسّبب الصّحيح، فاللهُ هو الّذي يطيّب ألسنةَ أوليائِه، ومَن كان مِن أهل الإيمان والعمل الصّالح فليجعل مِن همّتِه اختيارَ أعذبِ الكلامِ، وأطيبِ القولِ، فليطلبه من الله، وليبذل له السّبب، فإنّه مِن زينةِ الإيمانِ الّتي يرزقُها اللهُ مَن يشاءُ مِن عبادِه، ويهدي إليها مَن يريد.

زيّن اللهُ منطقَنا، وقلوبَنا، وسائرَ جوارحنا، وجعلنا مِن أهل الطِّيبةِ الطّيّبين.
قولُ الله سبحانه: ﴿وتَعاوَنوا على البِرّ والتّقوىٰ ولا تَعاوَنوا على الإثمِ والعُدوان﴾ قاعدةٌ تخترطُ جميعَ أعمالِ النّاس، وميزانٌ يُوزَن به كلُّ ما بين اثنين مِن أخذٍ وتركٍ، ذهَب في ذٰلك أبعدَ المذاهب، وشمل جميعَ المتعامِلِين.

* إجمال:

خلاصتُه: أنّ شرعَ اللهِ سبحانه منصوبٌ علىٰ حصولِ البِرِّ، وإصابةِ التّقوىٰ، وعلىٰ تركِ الإثمِ، ومجافاةِ العدوانِ على النّاسِ، كما قال في الآيةِ الأخرىٰ وقد أطلق القولَ إطلاقًا: ﴿إنّ اللهَ يأمر بالعدلِ والإحسانِ وإيتاءِ ذي القربىٰ وينهىٰ عن الفحشاءِ والمنكرِ والبغيِ يَعِظُكم لعلّكم تذّكّرون﴾.

* بيان:

❏ ولمّا كانت الآيةُ عن علاقةِ ما بين المرءِ والمرءِ: استُحضِر فيها البِرُّ والعدوانُ، لأنّ أحوالَ ما بين النّاسِ تتردَّدُ بين ذٰلك، فرسَمت الآيةُ الطّريقَ إلى البِرّ بالأمرِ به، وكفَّتْ عن العدوانِ بالنّهي عنه، وحسَمتْ في ذٰلك حَسْمًا.

❏ ثمّ عَلَت في الطّلب، وتمَّمت المرادَ، فتناوَلت جِماعَ ما بين المتعامِلِين، أن يكونَ وفاقَ أمرِ اللهِ، وإصابةَ مرادِه، وذٰلك أن أمرتْ بالتّقوىٰ، ودخَل في ذٰلك جميعُ التّقوىٰ، وأساسُ ذٰلك توحيدُ اللهِ، وإقامةُ شعائرِه العظيمةِ، وتحقيقُ سلطانِه في الأرضِ، ونهت عن الإثمِ، ودخَل في ذٰلك جميعُ الإثمِ، وأساسُ ذٰلك الشّركُ باللهِ، ونقضُ مواثيقِه العِظام، وتغييرُ معالمِ حكمِه أو تغييبُها.

❏ وجُمِع هٰهنا بين «البِرِّ» و«التّقوىٰ» لأنّ البِرَّ مُفضٍ إلى التّقوىٰ، والتّقوىٰ أعمُّ، وجُمِع بين «الإثم» و«العُدوان» لأنّ العُدوانَ مُفضٍ إلى الإثم، والإثمُ أعمُّ، فذُكِّر بالغايةِ الّتي يبتغيها كلُّ ملتزمٍ لأحكامِ اللهِ، فعلًا، وتركًا، وأُرِيدَ أن ينطلقَ المرءُ ممّا بينه وبين مَن يعاملُ إلىٰ أن يتحقَّقَ المقصودُ الأعظمُ منه، أن يكونَ البِرُّ مِن أجلِ التّقوىٰ، ويكونَ تركُ العُدوانِ مَنجاةً مِن الإثمِ، فبُيّن أنّ البِرَّ المطلوبَ لا يمكن أن يُوقِعَ في ما يخلُّ بالتّقوىٰ، وأنّ تركَ العُدوانِ المرغوبَ لا يعطي المسامحةَ في ركوبِ الإثم، لكثرةِ مَن يعثرُ في ذٰلك فينتهكُ سِتـرَ اللهِ.

* تلويح:

❏ وإذا عاوَدتَّ النّظرَ في ألفافِ الآيةِ وما وقَع فيها مِن الجمعِ بين الأوصافِ المذكورة: ألفيتَ فيها تلويحًا بنعوتِ أهلِ الدّين الّتي ينبغي أن يكونوا عليها: أهلِ العلمِ به، وأهلِ العملِ.

فأمّا صاحبُ العملِ فتهيِّئُه أن يكونَ ليّنًا في غيرِ ضعفٍ، وقويًّا في غيرِ عنفٍ، وتلك سِمةُ أهلِ الإيمانِ المنشرحةِ للدّينِ صدورُهم.

وأمّا أهلُ العلمِ فتعرّفُه أسرارَ التّشريعِ، وتعلّمه الغوصَ على المعاني، إذْ تربطُ بين أحكامِ الشّريعةِ المختلفةِ، وتنبِّهُ علىٰ مقاصِدِها بوسائلِها، وتُعنىٰ بالوسائلِ المفضيةِ إلى المقاصدِ، ليكونَ في تلقّيه لأمرِ اللهِ ونهيِه علىٰ بصيرةٍ مِن ذٰلك.

=
= تابع

* تناول الآية للكفّار:

❏ ولوَّح لفظُ البِرِّ والعدوانِ، ولفظُ التّقوىٰ والإثم، بأنّ شأنَ مَن يُعامَلُ أن يكونَ واقعًا في الإثم، ومجانبًا للتّقوىٰ، وأن شأنَ المؤمن إذ يعاملُه أن يَعدُوَ عليه ولا يَبَرَّه، فجُعِل إلىٰ تقواه سبيلُ أن يُبَرَّ، وإلىٰ تركِه الإثمَ أن لا يُعدَىٰ عليه.

وإنّما يصدُقُ هٰذا على المخالفِ في الدّيانة، وهو الكافرُ، وقد تناوَله لفظُ الآيةِ صريحًا، كما أبيِّن لك.

ووجهُ ذٰلك: أنّ وزنَ الفعلِ «تَعاوَن» في قولِه: ﴿وتعاوَنوا﴾، وقولِه: ﴿ولا تَعاوَنوا﴾، موضوعٌ للدّلالةِ على الاشتراكِ في الفاعليّة، لا يكونُ إلّا مِن فاعلَين متقابلَين مشتركَين في الفعلِ أو أكثرَ، وأنّ واوَ الجماعةِ الفاعلَ في الموضعين شَمِلتْ فريقين: فريقَ المؤمنين، وفريقَ الكافرين، فأمّا المؤمنون فعيَّنهم مِن الآيةِ أنّهم المخاطَبون بالكلامِ مِن أوّلِ السّورةِ بقولِه: ﴿يا أيّها الّذين آمنوا أوفوا بالعقود﴾، ﴿يا أيّها الّذين آمنوا لا تحلّوا شعائرَ الله﴾، وهم المخاطَبون بالقرآنِ ابتداءً، لأنّهم المؤمنون به، وأمّا الكافرون فقد ذُكِروا في الآيةِ الّتي قبلَ هٰذه في قولِه: ﴿ولا آمّين البيتَ الحرام يبتغون فضلًا مِن ربِّهم ...﴾، ثمّ قولِه في هٰذه الآيةِ قبلَ الجملةِ المتلوّة للادّكار: ﴿ولا يجرمنّكم شنآنُ قومٍ أن صدّوكم عن المسجدِ الحرامِ أن تعتدوا﴾، فصار معنى الكلام: وتعاونوا أيُّها المؤمنون والمشركون على البِرّ والتّقوىٰ ... وغلَب المؤمنون فجرى الكلامُ خطابًا لهم، علىٰ أسلوبِ العرَب المعهودِ، أنّه إذا اجتمع المخاطبُ والغائبُ غُلِّب المخاطَبُ في الكلام، لأنّ رتبتَه أرفعُ مِن رتبةِ الغائبِ، ونظيرُه قولُ لقيطٍ الإياديّ يخاطبُ قومَه يحذِّرهم غزوَ فارسَ لهم:

أنتم فريقان هٰذا لا يقومُ له
هصرُ اللّيوثِ وهٰذا هالكٌ صَقَعا


وحصَل مِن مجموعِ ذٰلك أنّ المعنىٰ: إذا دعاكم مَن تبغضونهم إلىٰ خُطّةٍ فيها البِرُّ والتّقوىٰ، فتعاونوا أنتم وهم عليها، فهي ممّا أمر الله به، ورضيه لعبادِه، وإذا دعَوكم إلىٰ خطّةٍ فيها مِن حرماتِ الله، مِن الشّرك، والإثم، فلا تتعاونوا عليها.

❏ فتقرَّر بهٰذا البيانِ أنّ الآيةَ تشملُ في الأمرِ بالمعونةِ: الكفّارَ الأصليّين الّذين يحاربون اللهَ ورسولَه، والّذين مِن حكمِ الإيمانِ أن يُبغَضوا في الله، أنّهم إذا أرادوا ما فيه صلاحٌ وخيرٌ أُعِينوا عليه.

وقد جرىٰ علىٰ حكمِها النّبيُّ ﷺ إذ قال عن كفّار قريشٍ يومَ الحديبية: «والّذي نفسي بيدِه لا يسألوني خطّةً يعظِّمون فيها حُرُماتِ اللهِ إلّا أعطيتُهم إيّاها» [البخاريّ من حديث المسور بن مخرمة (2731)].

وفي معناها أن أباح اللهُ للمؤمنين أن يزيدوا علىٰ ذٰلك بأن يبدءوا هم بالبِرِّ، وأن يعاملوا بالسّويّةِ والقسطِ، وأخبرهم أنّ ذٰلك ممّا يحبّه سبحانه، كما قال: ﴿لا ينهاكم اللهُ عن الّذين لم يقاتلوكم في الدِّين ولم يخرجوكم مِن دياركم أن تَبَرُّوهم وتُقسِطوا إليهم إنّ اللهَ يحبّ المقسطين﴾، وهٰذا أسمحُ.

* فحوى الخطاب:

❏ وإذا كان هٰذا الّذي يُعطَى الكفّارَ الأصليّين، فأن يكونَ ذٰلك لمَن كان مِن أهلِ الإيمانِ باللهِ ورسولِه، وأهلِ الصّلاةِ والزّكاةِ والصّيام، أَولىٰ، لأنّهم قد شَمِلهم اسمُ الإيمانِ أوّلًا، فكانوا أحقَّ بالأمرِ بالمعونة، وأولىٰ بالنّصرةِ في اللهِ، لأنّه إذا أُمِر المؤمن أن يعاون الكافرَ في الخير، فأَن يُؤمَرَ بمعاونةِ أخيه المؤمنِ أجدرُ، ويُستخرَجُ ذٰلك مِن الآيةِ علىٰ طريقِ التّنبيهِ بأبعدِ الأمثلةِ علىٰ أقربها، وإنّما أُمِر بمعونةِ الكافرِ لأنّه ربّما ارتاب المؤمنُ في جوازِ ذٰلك، فأمّا جوازُ معونةِ المؤمنِ في الخيرِ، فأمرٌ لا ينبغي التّردُّدُ فيه.

* نكتة:

❏ وإنّما جاء بقولِه: ﴿ولا تعاوَنوا على الإثم والعدوان﴾ بعد أن أَفهَمه الأمرُ بالتّعاونِ على البِرِّ والتّقوىٰ: لتقريرِه، والتّصريحِ به، فيكونَ ذٰلك أذهبَ في استشناعِه، والنّهيِ عنه، ولحدِّ الحدودِ الشّرعيّةِ في المعاملاتِ، لئلّا يَتعلّق متعلِّقٌ بأوّلِ الآيةِ فيتمادىٰ حيث لا يباحُ له، فجاء الحكمُ فاصلًا بين الضّربين، ضابطًا ما لكلٍّ منهما، فارقًا بين الحلالِ والحرام، وهو طريقةُ القرآنِ في البيان، أن يبلغَ منه غايةَ الوضوحِ، ليكونَ فيه تمامُ الهدىٰ.

=
= تابع

* عبرة:

❏ ولهٰذا المعنىٰ مِن شواهدِ القرآنِ والسّنّة ما لا يضبطُه التّقييدُ، وإذا تأصّل: وُزِن به ما يُشِيعُه كثيرٌ مِن النّاسِ اليومَ علىٰ أنّه هو السّنّةُ المحضةُ، ومقتضى المنهاجِ السّويِّ، يجتثّونه اجتثاثًا: مِن البتِّ في هِجرانِ مَن تلبَّس ببدعةٍ أو أَعلَن خلافًا لما دلّ عليه القرآنُ والسّنّةُ في بابٍ مِن الأبوابِ ممّن ثبَت دينُه بيقينٍ، وإذا عُلِم أنّه خلافُ ما تقرَّر في هٰذه الآيةِ وأمثالِها وهو في القرآنِ والسّنّةِ كثيرٌ: تبيَّن أنّه خلافُ حكمِ اللهِ عزّ وجلّ الّذي رضي لعبادِه المؤمنين أن يعاملوا به. وما هو إلّا مِن فسادِ الفهمِ، المفضي إلى الظُّلم، والبغيِ في الحكمِ.

❏ وقد أوجب قولَهم ذٰلك ولوازمَه الفاسدةَ خللٌ منهم في التّصوُّر يتتابَعون عليه، وخللٌ في الإرادة.

- أمّا خللُ التّصوُّر فأمران:

الأوّل: قصورٌ في النّظر، واستعجالٌ لأواخرِ الأمورِ قبلَ استتمامِ أوائلِها، قذَف بهم في الاشتغالِ بساحاتِ الخلافِ دونَ ضبطٍ لمواضعِ الوفاقِ، ومباني الحقائقِ، ألا ترىٰ أنّهم جعَلوا الأمورَ العارضةَ الّتي تُذكَرُ في مواطنِها المخصوصةِ: هي الأصولَ المستقرّةَ الّتي يعاودونَ الحديثَ فيها، ويدندنون حولَها، ويحاكمون إليها، وإذا ما نُوزِعوا فيها صاحوا: رُدّت السّنّة بالأهواءِ، وانتشرت البدعُ! وإذا رُدّ عليهم قالوا: قد صار أهلُ السّنّةِ غرَضًا لكلِّ أثيمٍ! وقد قلتُ يومًا لبعضِهم:

ولستَ أنت السُّنّةَ، الزَمْ حَدَّكا
فلم يَرُدُّ سنّةً مَن رَدَّكا


والأصولُ الشّرعيّةُ المستقرّةُ شيءٌ غيرُ العوارضِ، ولا تُفهَم العوارضُ حقَّ الفهمِ ولا يُعرَفُ تفسيرُها تمامَ المعرفة، ولا يمكنُ استعمالُها استعمالًا صحيحًا، إلّا بالأصولِ، والأصولُ عن القومِ غائبةٌ، لأنّها تحتاجُ إلىٰ كثيرٍ مِن تحرّي مرادِ اللهِ ورسولِه، وطلَب العلمِ، والقومُ أخَذوا منهجَهم مِن كتبِ الرّدودِ، لا مِن كتابِ المعبود، فصار فهمُهم خلافَ ما أراد اللهُ ورسولُه ...

والآخر: أن ترَكوا التّعويلَ علىٰ ما في الكتابِ والسّنّة، باستقراءِ الأحوالِ، وتتبُّع المواقع، لأنّه أمرٌ شاقٌّ لا يكادُ يقتدرُ عليه إلّا الأفذاذ، فتركوه واكتفَوا دونه بآثارٍ مرويّةٍ عن بعضِ السّلفِ، يحتفُّ بها مِن موجِباتِ التّقييدِ والتّخصيصِ والتّأويلِ والبيان ما يحتفُّ، ويجوزُ عليها الخطأُ، وهم يؤاخذون غيرَهم بترك الاشتغالِ بالوحي، ويرمونهم بالتّقصير في التّعويلِ عليه، ويتلون: ﴿فإن تنازعتم في شيءٍ فردّوه إلى اللهِ والرّسول﴾! وإذا ذاكَرتَ أحدَهم بآيةٍ في موضوعٍ يراودك عليه، أو قرَّرتَ عليه معنًى قرآنيًّا مستمرًّا: رأيتَه ينظُرُ إليك تدور عيناه!

- وأمّا خلل الإرادة: فمترتِّبٌ عن خللِ التّصوُّر، وهو سوءُ الظّنِّ بأهل العلم، وتهمةُ البُرآءِ، وحملُهم علىٰ أضيق المحامل، ثمّ نصبُ الباغين أنفسَهم حكّامًا على الخليقة، يعدّون أنفسَهم حماةَ الحقيقة!

ومِن أعيبِ العيبِ أن يصفَ المرءُ أخاه بما هو فيه، ويبغي البرآءَ العنَتَ، وأن يجعلَ عِرضَه كلَأً يستبيحُ به الأعراضَ المصونةَ!

إنّ الرّجلَ متىٰ ما اشتَغَل بتعرُّفِ نفسِه، وتكميلِ فضائلِها، وإصلاحِها، شغَلته أوهامُه الكثيرة، ونقصُه المستفحلُ، وما يعلمه عن نفسِه مِن ضعفِ الهمّةِ، وسوءِ النّيّة، وقلّةِ الصّدق، ورقّة الدّين، ونقصِ اليقين، شغلتْه عن كلِّ شيءٍ، وإنّ ذٰلك لهو منهاجُ المناهجِ، الّذي لا يقيم العاقلُ في دربٍ سواه.
قول الله تعالىٰ: ﴿واستعينوا بالصّبر والصّلاة وإنّها لكبيرةٌ إلّا على الخاشعين الّذين يظنّون أنّهم ملاقو ربّهم وأنّهم إليه راجعون﴾ جمع في ما أمَر بني إسرائيل تعليلًا وتعليمًا، علّمنا كيف نستعينُ علىٰ أمورِنا أنّ ذٰلك بالصَّبر وبالصّلاة، ثمّ علّمنا أنّ الصّلاةَ شاقّةٌ على النّفوسِ تنافي الأهواء، فلا تحصلُ المعونةُ بها إلّا للخاشعين المتذلّلين الّذين آثَروا العبادةَ، وخضَعوا لله، وهم الّذين يحضُرون أعمالَ الصّلاة مواطئةً قلوبُهم أقوالَها، وأفعالَها، وأحوالَها، ويأتونها في إقبالٍ وصدقٍ وانشراحٍ. وبيّن لنا طريقَ تحصيلِ السّكينةِ والخشوعِ، أنّه ذكرُ لقاءِ اللهِ للجزاءِ، والرّجوعِ إليه في يومِ الحساب، واستحضارُ عظيمِ أجرِه وواسعِ نوالِه، فإنّ ذٰلك مهما ذكَره الإنسانُ: هوَّن عليه المشقّة، ورغَّبه في الاجتهاد، فانقاد لأمرِ الله، وأَحسَن صلاتَه، وخشَع فيها، وسهُلتْ عليه. وقد وصَفت الآيةُ الخاشعين بما ذُكر، تلويحًا للعلّةِ في ما كان منهم مِن الخشوعِ: أنّها استحضارُ لقاءِ اللهِ وثوابِه وحسابِه، ولم يكتفِ بقولِه: ﴿أنّهم ملاقو ربِّهم﴾ حتّىٰ عطَف عليه ﴿وأنّهم إليه راجعون﴾ وهما في معنًى، وإنّما جاء بالمعطوفِ تلوينًا في الخطابِ وتوكيدًا. ويُعلَم بذٰلك أنّ مَن لم يَرَ الخشوعَ فليعلم أنّ إيمانَه باليومِ الآخرِ إيمانٌ ناقصٌ مدخولٌ، فإنّه متىٰ أيقن به إيقانًا لم يكن بُدٌّ مِن ظهورِ آثارِه.

وفي هٰذا شيءٌ مِن ثمَرة الإيمان باليومِ الآخر طرَّقتْ لها الآيةُ، وهي إحسانُ العملِ، وبلوغُ أقصىٰ وجوهِه.

ونظائرُها في كتابِ الله تعالىٰ كثيرٌ جدًّا، مثلُ قولِه: ﴿والّذين يؤتون ما آتَوا وقلوبُهم وجلةٌ أنّهم إلىٰ ربِّهم راجعون أولئك يسارعون في الخيراتِ وهم لها سابقون﴾، ﴿أمَن هو قانتٌ آناء اللّيلِ ساجدًا وقائمًا يحذرُ الآخرةَ ويرجو رحمةَ ربِّه﴾، وقوله عن الأبرار: ﴿إنّما نطعمكم لوجهِ الله لا نريدُ منكم جزاءً ولا شكورًا إنّا نخاف مِن ربِّنا يومًا عبوسًا قمطريرًا﴾.

وفي معناها: ما يُذكَر مِن ثوابِ الأعمال، وفضائِلها، فإنّ ذٰلك ممّا يعينُ على الإتيانِ بها على الوجهِ المرضيّ، وينشّطُ النّفوسَ لها تنشيطًا.

ومَن تتبَّع القرآنَ الكريم، أمكن أن يمليَ جزءًا كاملًا يستقري به وجوهَ هٰذا المعنىٰ، وهو معنًى دينيٌّ إيمانِيُّ قرآنِيٌّ سلوكيٌّ جليلٌ.
قول الله في أوائل سورة آل عمران: (واللهُ يؤيّد بنصرِه مَن يشاء إنّ في ذلك لعبرةً لأولي الأبصار) بعد أن وصَف حالَ الفئتين المقتتِلتين المؤمنين والكافرين، وبان بذلك قلّةُ ما بيدِ المؤمنين، ورقّةُ حالِهم، وضعفُهم في الأسبابِ الظّاهرة ... ثمّ أظفرهم اللهُ على عدوِّهم، فكان في ذلك آيةٌ للنّاسِ، كما قال اللهُ في أوّل الآية، فعقّب بهذا الكلام الشّريف الفخيم المؤدّب، فانكشف به أنّ معيارَ النّصرِ ليس قوّةَ السّلاح، وإنّما هو قوّة الصّلاح، ولزومُ سبيل الفلاح، فقوّة السّلاحِ يمدّها الغُرور، وقوّة الصّلاح يكلؤُها الغفور الشّكور، وفي تعبيرِه بـ(يؤيّد) الّذي يدلّ على التّجدُّد: ما يطرُدُ المسألةَ إلى زمانِنا هذا.، وإلى ما شاء الله.

ثمّ أدَّب اللهُ المؤمنين أن لا يذهبوا مع الشّائعات، ولا يعملوا على الأوهامِ، فيكونوا كالّذين قالوا: لا قِبَلَ لنا بعدوِّنا! فيتركوا ما أمرهم الله به مِن الجهاد، وإنّما عليهم أن يعتبروا بما جَرى مِن لطفِ اللهِ للمؤمنين السّابقين، فإنّه مقتضى حكمتِه وقوّتِه.

ولكن، أنّى لأكثر النّاسِ أن يدركوا الحقيقةَ أو يضبطوا النّفوسَ في أحلكِ الأيّام! وإنّما هَمُّ أحدِهم اللّغوُ والضّربُ ذاتَ اليمين وذاتَ الشّمال، وكم ممّن يملأ شدقيه صباحَ مساءَ يتخوَّضُ في ما لا يحسن، ويوشك أن يكذِّبَه اللهُ بنصرِ الّذين آمنوا، كما نصَر الّذين آمنوا.

وإنّما يصيبُ الصّوابَ في هذه المآزق مَن رزَقه الله بصَرًا فأحسن البصرَ به، وقليلٌ مّا هم.

وفي هذا التّذييل من الآيةِ تنبيهٌ على مراتبِ النّاس في المعرفة والفهم، ولا سيّما مضايق الحكم، وأنّ كثيرًا مِن النّاسِ ليسوا بأهلٍ للخوضِ في الأمور، وإنّما الّذي يلزمهم ديانةً الإمساكُ، والإقبالُ على اللهِ ودعاؤُه والعملُ الصّالح.

والله أعلم.
قول الله تعالىٰ: ﴿تلك حدودُ الله ومَن يطع الله ورسوله ندخله جنّاتٍ تجري مِن تحتها الأنهار خالدين فيها وذٰلك الفوزُ العظيمُ ومَن يعصِ اللهَ ورسولَه ويتعدَّ حدودَه ندخلْه نارًا خالدًا فيها وله عذابٌ مهينٌ﴾، أعاد الضّميرَ على اسمِ الشّرطِ في الأوّل مفردًا، ثمّ مجموعًا، والتزَم الإفراد في الآخر، وكلٌّ جائزٌ. وكأنّ مِن النّكتةِ في التّفريقِ بينهما أنّه أُوثِر الجمعُ في الأوّل فقيل: «خالدين فيها» لمناسبةِ الجزاءِ، وكذٰلك الآخر: «خالدًا فيها»، وذٰلك أنّ جزاءَ الإحسانِ قاضٍ بالإيناسِ، فهو أتمُّ للنّعيمِ، وجزاءَ الإساءةِ قاضٍ بالإيحاش، فهو أمرُّ للجحيم، حتّىٰ كأنّ صاحبَه في سجنٍ، لا مغيثَ له ولا مُنجِدَ، ولا مؤنسَ، ولا منقذَ، ولا مخفِّفَ، ولا متعهِّد، فدلّ الجمعُ على الأوّلِ، ودلّ الإفرادُ على الآخِر.

وفي القرآنِ بيانُ أنّ أهلَ الجنّةِ يتنعَّمون هم ومعارفُهم، كقولِ الله: ﴿إخوانًا علىٰ سررٍ متقابلين﴾، ﴿إنّ أصحابَ الجنّةِ اليومَ في شُغلٍ فاكهون هم وأزواجُهم في ظلالٍ على الأرائكِ متّكئون﴾، ﴿والّذين آمنوا واتّبعتْهم ذرّيّتهم بإيمانٍ ألحقنا بهم ذرّيّاتهم وما ألتْناهم مِن عملِهم مِن شيءٍ﴾، ﴿يتنازعون فيها كأسًا﴾، والأزواجُ: النُّظَراءُ والمشاكهون. ومعنى الإيناسِ بذٰلك حاصلٌ.

وفيه بيانُ أنّ أهلَ النّارِ لا يؤنسهم فيها أحدٌ، كقولِهم: ﴿فما لنا مِن شافعين ولا صديقٍ حميم﴾، ﴿فليس له اليومَ هٰهنا حميمٌ﴾.

وجمَع بينهما قولُ الله: ﴿الأخلّاء يومئذٍ بعضُهم لبعضٍ عدوٌّ إلّا المتّقين﴾، وفيه فضلٌ مِن المعنىٰ: أنّ التقاءَ أهل النّارِ في النّارِ هو علىٰ معنى العداوةِ، كما أَطلَعَنا اللهُ علىٰ ذٰلك في غيرِ آيةٍ، كقولِه عنهم: ﴿كلّما دخَلت أمّةٌ لعنتْ أختَها حتّىٰ إذا ادّاركوا فيها جميعًا قالت أخراهم لأولاهم ربَّنا هٰؤلاء أضلّونا فآتهم عذابًا ضعفًا مِن النّار﴾ الآيتين، والعداوةُ زيادةٌ في العذابِ، لا إيناسَ بها.

وإذا عُلِم أنّ أهلَ النّارِ يدخلونها زُمَرًا زُمَرًا، وأنّهم يتراءَون، والنّاسُ يقولون: إذا عمّت خفَّت، ففي القرآن بيانُ أنّ اشتراكَهم ذٰلك لا يخفِّف عنهم، كما قال الله: ﴿ولن ينفعكم اليومَ إذ ظلَمتم أنّكم في العذابِ مشتركون﴾.

كتَبتُ هٰذا ثمّ نظَرتُ في كتب التّفسير، حتّى انتهيتُ إلىٰ أبي السُّعودِ، فإذا هو يقولُ: «ولعلّ إيثارَ الإفرادِ هٰهنا نظرًا إلىٰ ظاهرِ اللّفظِ، واختيارُ الجمعِ هناك نظرًا إلى المعنىٰ، للإيذانِ بأنّ الخلودَ في دار الثّوابِ بصفةِ الاجتماعِ أجلبُ للأنسِ، كما أنّ الخلودَ في دارِ العذابِ بصفةِ الانفرادِ أشدُّ في استجلابِ الوحشة» انتهىٰ، وهٰذا الّذي مهَّدْنا به. وأخَذه عنه الآلوسيُّ في «روح المعاني» ــ وكذٰلك يفعلُ ــ، وذكَر قبلَه وجهًا آخر، قال: «وأَفرَد هنا وجمَع هناك لأنّ أهلَ الطّاعةِ أهلُ الشّفاعةِ، وإذا شفَع أحدُهم في غيرِه دخَلها معه، وأهلُ المعاصي لا يَشفَعون، فلا يدخُلُ بهم غيرُهم، فيَبقَون فُرادىٰ» انتهىٰ. وهٰذا معنًى بعيدٌ عن السِّياق. وذكَر الشّيخ محيي الدّين الدَّرويش معنًى بلاغيًّا غيرَ هٰذا في «إعراب القرآن ومعانيه».

أجارنا الله وإيّاكم من النّار، وأدخلنا الجنّةَ دار القرار، مع الصّالحين والأبرار.
قول الله تعالىٰ عن يوسف: ﴿ربِّ السِّجنُ أحبُّ إليَّ ممّا يدعونني إليه﴾ يدلُّ بفحواهُ على مرارةِ السِّجن، ومشقّةِ ما فيه، وأنّه مِن العذابِ على الكريمِ. وأدنى ما فيه: تقييدُ الإنسانِ الّذي خُلِق ليكونَ حرًّا، طليقًا، يمشي أنّى شاء، وينقلبُ حيثما أراد، فكيف يتصوَّر أن يكونَ وهو محجوزٌ في مكانٍ واحدٍ، مقطوعٌ عن فسحةِ الخاطر، ممنوعٌ مِن متعلَّق النّاظر. هذا مجرَّدُ السِّجن، فاذكُرْ معه أن يصاحبَه الانقطاعُ عن الأهلِ، والصِّلاتِ، والأحباب، وأن يُحرَمَ مطالبَ النّفسِ ولذائذَ الجسدِ مِن أنواعِ المأكولِ والمشروبِ والملبوسِ والمقروءِ. فكيف إذا كان ذلك عن ظلمٍ وبغيٍ وعدوانٍ وقهرٍ، وكيف إذا أذيق معه السَّجينُ ألوانَ العذابِ، وصنوف العقاب، واعتدي على عرضِه وكرامتِه، ومورس عليه ما تَزهَقُ معه النّفسُ، وتَنخَرُ العِظام، ويختلُّ العقلُ، وتطيشُ الأحلامُ ... إنّه واللهِ أمرٌ لا تبلُغُه العبارةُ، ولا يجدُ حَرَّه إلّا مَن عاناه. فانظرْ كيف آثَره يوسفُ عليه وعلى نبيِّنا السّلامُ، على أن يُبتلَى في ديانتِه، ويستجيبَ لنداءِ المجرمين ... فجعَله أحبَّ إليه مِن التّعرُّض للفتنةِ، والوقوعِ في حمأتِها ... وهكذا يحكُمُ المصطَفون الأخيار، المصنوعون على عينِ الله الملك الجبّار! يقولون:

إنّ الحوادثَ ما رَمَتْك فلم تُصِبْ
مِن نفسِ دينِك ذاتُ خطبٍ أَيسَرِ


كان الله لكلِّ أسيرٍ مظلومٍ، وأعقبه فَرَجًا ومخرجًا، وعزّةً باللهِ وكرامةً.
قول الله تعالىٰ: ﴿قل يا أيُّها الّذين هادوا إن زعَمتم أنّكم أولياءُ للهِ مِن دونِ النّاسِ فتمَنَّوا الموتَ إن كنتم صادقين ولا يتمنَّونه أبدًا بما قدَّمتْ أيديهم والله عليمٌ بالظّالمين﴾، في الآيتين بلوى شديدةٌ، وميزانٌ به يصنَّفُ النّاسُ، ويُنزَلُون المنازلَ، وإن كان الخطابُ بها لليهود، فإنّ المطلوبَ منهم إنّما ترتَّب على دعوى قالوها، يدّعيها كلُّ أحدٍ، فتكونُ محنتُه بما امتُحِنوا به. فمَن اعتقد أنّ له عند اللهِ منزلةً، فليَنظُرْ أين هو مِن تمنّي لقاءِ ربِّه! وكلُّ امرئٍ يعلمُ مِن نفسِه الجوابَ عن ذلك.

وفي الآيةِ بيانُ المانعِ مِن وَلايةِ الله، وتمنّي لقائِه: أنّه الذّنوبُ والآثامُ والمظالمُ الّتي تتراكَم في القلبِ حتّى تلبُغَ العَنان، فلا تَلبَثُ فيه حتّى يصرِّفَها في الجسَدِ، فتمتزج بالدَّمِ واللّحم والشّحم، فيكون الجسَدُ بها خبيثًا، مطموسَ البصيرة، بعيدًا عن لقاءِ الآخرة.

أصلح الله قلوبَنا، ورزَقنا الشَّوقَ إلى لقائِه، في غيرِ ضرّاءَ مضرّةٍ، ولا فتنةٍ مضلّةٍ.
قول الله تعالىٰ: ﴿إن تستغفر لهم سبعين مرّةً فلن يغفرَ اللهُ لهم﴾، يدلُّ بفحواه على أنّ تَكرارَ الاستغفارِ والإلحاحَ به والمبالغةَ فيه مَدْعاةٌ لاستجابةِ اللهِ، ومغفرتِه، وأنّ الذّنوبَ العظامَ ينبغي فيها ذلك، وأنّه لا يليقُ أن يجمعَ العبدُ بين الإسرافِ على نفسِه، وقلّة الاطّراحِ بين يدي مَولاه وإمساكِ نفسِه عن التّضرُّع بين يديه والإلحافِ في مسألتِه.

ويؤيّد هذا ما ورَد في الحديثِ عن النّبيِّ ﷺ مِن تَكرارِ الاستغفار، أنّهم كانوا يُحصون له في المجلس سبعين مرّةً، وأنّه كان يستغفر في اليومِ مئةَ مرّةٍ، وأنّه نوَّه بمن وجَد في صحيفتِه استغفارًا كثيرًا.
تعليق على: ﴿ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر﴾ .
قولُ الله سبحانه: ﴿يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا اللهَ وقولوا قولًا سديدًا﴾، أَبرَز هٰهنا شأنَ اللِّسان، مع أنّه مِن جملةِ التَّقوىٰ، تنبيهًا عليه، وتذكيرًا بمغبَّتِه، وساعَد علىٰ ذٰلك ــ ولا أستحضر موضعًا مِن القرآنِ غيرَه قُرِن فيه ضبطُ اللّسانِ بالتّقوىٰ ــ أن وقعت الآيةُ عَقِب قولِ الله: ﴿لا تكونوا كالّذين آذَوا موسىٰ فبَرَّأه اللهُ ممّا قالوا﴾، وقبلها: ﴿إنّ الّذين يؤذون اللهَ ورسولَه لعنهم اللهُ في الدُّنيا والآخرة وأعدَّ لهم عذابًا مهينًا والّذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغيرِ ما اكتَسَبوا فقد احتمَلوا بهتانًا وإثمًا مبينًا﴾، فسَدَّت أعظمَ أبوابِ الإذايةِ، وهي الإذايةُ باللِّسانِ، كالّتي حصلت لموسىٰ عليه السّلام من قومِه، وإنّما يُسَدُّ ذٰلك بقولِ السَّداد، ومراقبةِ ما للّسانِ مِن حصاد.

والله أعلم.
قول الله سبحانه: ﴿وقالوا إن نتّبع الهدىٰ معك نُتخطَّف مِن أرضِنا﴾، مِن جواباتِ المعاندين للرّسل، الّتي تكشفُ عمّا في القلوبِ مِن اليقينِ بالحقِّ الّذي بعَث الله به رسلَه، وأنّه الهدىٰ، حتّىٰ تنطق الألسنةُ باسمِه الحقِّ الّذي هو الهدىٰ، ثمّ تروم الاعتذارَ بالخوفِ على النّفسِ، وإن لم يكن عذرًا.
قولُ الله سبحانه: ﴿أفمَن يعلم أنّما أُنزِل إليك مِن ربِّك الحقُّ كمَن هو أعمىٰ إنّما يتذكَّرُ أولو الألباب﴾، قابَل العالمَ بالأعمىٰ، وكان أصلُ الكلامِ أن يقابَل بالجاهلِ، فعدَل عن ذٰلك إلى الوصفِ بالعَمَىٰ، والعَمَىٰ هنا عمى البصيرة، والوصفُ منه: العَمِي، ويقال الأعمىٰ، كما في هٰذه الآيةِ، وكما في قولِ الله: ﴿ومَن كان في هٰذه أعمىٰ فهو في الآخرةِ أعمىٰ﴾، وإنّما عدَل عن ذٰلك ــ واللهُ أعلمُ ــ مبالغةً في وصفِه بالجهالةِ، وبيانًا أنّه لا يتأتّىٰ منه علمٌ أصلًا، فهو فاقدٌ للبصَر، وإن كان ينظر بعينيه، كما قال الله: ﴿وتَراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون﴾، ومَن كان متعطّلةً آلتُه، ليس متهيّئًا لتلقّي العلمِ، ولا ممكَّنًا أن يميِّزَ الحقَّ مِن ألوانِ الأباطيلِ، فهو محرومٌ مِن العلمِ والإدراكِ، فأنّىٰ يغادرُه وصفُ الجهالة ويُظَنُّ به شيءٌ مِن علمٍ وهو أعمى البصيرةِ، لا لُبَّ له؟!

وقد انتزَع هٰذا المعنىٰ مِن بعدُ فأَخرَجه موعظةً، وذٰلك أن ذيَّل الآيةَ بقولِه: ﴿إنّما يتذكَّر أولو الألبابِ ...﴾، وهم الّذين يتأتّىٰ منهم العلمُ، وينتفعون بما يسمعون، فيعلمون أنّ ما أنزل مِن ربِّنا الحقُّ.

فهٰذه الرّكينةُ الّتي تَركَنُ إليها الأعمالُ فتصحُّ، تدعوها فتستجيبُ لندائِها، وتبنىٰ علىٰ عِمادِها، أن يكونَ للمرءِ قلبٌ يفقهُ به ويعقلُ، فيَعلَمُ أنّ ما أنزل مِن اللهِ هو الحقُّ، فيوفي بعهدِ الله، ويعملُ الصّالحات، وأولئك لهم عُقبى الدّار.
قولُ الله سبحانه: ﴿ولقد آتيناك سبعًا مِن المثاني والقرآنَ العظيمَ لا تمدّنّ عينَيك إلىٰ ما متَّعْنا به أزواجًا منهم ولا تحزنْ عليهم واخفضْ جناحَك للمؤمنين وقل إنّي أنا النّذيرُ المبين﴾، ثبَت في «صحيح البخاريّ» مِن حديث أبي سعيد بن المعلَّىٰ وأبي هريرة أنّ النّبيَّ ﷺ فسَّر السَّبعَ المثانِيَ والقرآنَ العظيمَ بسورةِ الفاتحةِ، وذكَر في حديث ابن المعلَّىٰ أنّها أعظمُ سورةٍ في القرآن.

وعلىٰ توجُّهِ ذٰلك التّأويلِ فإنّ في ترتيبِ الآياتِ معنًى شريفًا، بيانُه: أنّ الله سبحانه جعَل امتنانَه علىٰ نبيِّه ﷺ بأن آتاه القرآنَ ــ ومنه سورةُ الفاتحةِ ــ سبَبًا في تركِ الانصرافِ إلىٰ ما عند النّاسِ مِن متاعِ الدُّنيا، والتّعلُّقِ بزخرفها، وتركِ الحزنِ عليها وعلىٰ مَن أوتيها وكان مِن الهالكين.

وفي ذٰلك وجهان:

الأوّل: أنّ ما آتاه اللهُ أعظمُ، ولا يستشعرُ عظمتَه مَن تلهَّىٰ عنه بما سواه، بل تُمحَقُ منه برَكتُه، وتزولُ عنه نعمتُه. فلزم مَن أراد أن يتلقَّى العظيمَ عظيمًا أن يتلهَّىٰ عمّا سواه. ومِن قلّةِ العلمِ باللهِ أن يطلُبَ مَن رُزِق العظيمَ عند ربِّه: ما عند غيرِه مِن الحقيرِ عند اللهِ، ومتىٰ فعَل ذٰلك فقد حقَّر ما عظَّم اللهُ، وعظَّم ما حقَّره.

والآخر: أنّ للقرآنِ العظيمِ علىٰ مَن أوتيه حقَّ أن يشتغلَ به، وينقطعَ إليه، ويتفقَّدَه، ويصونَه، ويطولَ فيه فكرُه، وتدبُّره، وعنايتُه، ويشكُرَه لمَن آتاه إيّاه، ويعرفَ حقَّه عليه به بالعملِ به وتبليغِه وإحيائِه، ويقومَ بوظائفِه وينتهضَ لأعبائِه، ولا يبلِّغُه المبلغَ المنشودَ مِن ذٰلك إلّا أن يَهجُرَ ما يَشغَلُ عنه مِن متاعِ الدُّنيا، ويُغمِضَ العينَ عن ملذّاتها، ويقطعَ عنه كلَّ صارفٍ.

وفي هٰذا عبرةٌ للمشتغِلِ بالعلمِ: أن يؤثرَه، ويجعلَ فيه فكرَه، ويصرفَ له وقتَه وجهدَه، ولا يجعلَه عُرضةَ النَّهبِ، ولا يبتغيَه بشغلِ الدُّنيا الّذي لا آخرَ له، ولا يظنَّ بما آتاهُ اللهُ سوءًا، ولا يعتقدَ فيه بخسًا ولا يتعدَّه حقيرًا.

وفي قولِ الله: ﴿لا تمُدّنّ عينيك﴾ فسحةٌ للمؤمنِ، وتوسيعٌ، أنّه لا يُحاسَبُ علىٰ ما كان منه مِن ذٰلك عن غلَبةٍ، لأنّه لا مَدفَعَ له، ولا مخلصَ منه، وإنّما يُنهىٰ عمّا زاد علىٰ ذٰلك ممّا في طوقِه توقِّيه، مِن إتباعِ النّفسِ ما تشتهي، وأن تمتدَّ العينُ إليه لا تنتهي.
2025/03/09 23:03:53
Back to Top
HTML Embed Code: