Telegram Group & Telegram Channel
لست من المعجبين بفكر الشيخ الألباني رحمه الله وأجزل له العطاء، بل لديّ نفورٌ شديد من بعض فتاويه وأطروحاته، لكنّ فكرة الطعن فيه وإهدار قيمته تمامًا لأنّه "لا شيوخ له"، وربط الأخطاء التي جاء بها في المنهج والفتاوى كلها بهذا الأمر فكرة غير صائبة بنظري. لدينا جيش من المشايخ المعاصرين ممن كان لهم شيوخ تقليديّون كبار وقد جاؤوا بطوامّ تفوق ما جاء به الألباني، فماذا نفعهم أخذهم عن المشايخ؟

لدينا مفتٍ سابق قديم لمصر صرف كثيرا من آيات القرآن عن حقيقتها وأوّلها تأويلا يناسب التطوّر العلمي الحديث، فضلا عن علاقات وآراء وأفكار طعن فيه من أجلها بعض المتشرّعة، فهل نلغي كلّ علمه ونهدره تمامًا وننكر كل فضيلة له؟

ولدينا طوام من بعض مَن تلقّوا العلم الشرعي "على أصوله" على الشيوخ، فلم يعصمهم التلقّي عن الشيوخ عن الخطأ والزلل والانحراف، فليست الاستقامة الفكرية أو العلمية أو الأخلاقية منوطة بهذا، بل هي منحة من الله يكرم بها عباده المصطفين الذين يطلبون هدايته في كل حين، فهو وحده سبحانه الهادي إلى سواء السبيل، وهو وحده الذي يرشدنا إلى الصواب.

لا أقول هذا لأقلل من قيمة التلقّي عن الشيوخ معاذ الله، بل من وجد شيخا يتصف بالعلم والخلق واستقامة السيرة فلينكب على النهل من علمه وأخلاقه، وليعلم أنه لن يجد في الكتب والصوتيات والمقاطع المرئية ما يجده في إرشاد وتعليم من شيخ فاضل ممتلئ بالعلم والأخلاق.

ونحن في هذا العصر نسدّد ونقارب، فنبذل غاية الوسع في تلقّي العلم، فمن العلم ما يجري في قلبك وعقلك في خلواتك التي تناجي فيها الربّ سبحانه وتستعينه وتستغفره وتستهديه. ومن العلم مجالسة الشيوخ والعلماء وسؤالهم والأخذ عنهم وتدوين ملاحظاتهم وتصويباتهم. ومن العلم ما يتفتّح في ذهنك وقلبك وأنت تقرأ تفسير كتاب الله وشروح السنن. ومن العلم ما تشاهده من دروس وفّرت لنا الوسائل الحديثة نقلها بأحسن صورة. ومن العلم ما يحصل من مراسلات بين طلبة العلم والعلماء في كلّ فنّ.. إلى غير ذلك من الوسائل.

فهذه كلها وسائل تتفاضل فيما بينها، ويختلف أثرها من شخص إلى آخر، ومن عصر إلى آخر، ومن مكان إلى آخر. لكنّ اللبيب من لا تلهيه الوسيلة عن نشدان الحقيقة، ولا تشغله تفاصيل الدروب عن طلب الغايات. والعبرة في النهاية فيما ينتج الإنسان من علم، فيقوّمه أهل العلم بما لديهم من علوم ودلائل، لا بما لديهم من ألقاب ومكانة.

وهذا الإمام أحمد بن نصرٍ الداودي المسيلي المالكي (ت 402 هـ) كان ممّن عُرف أنّه لا شيوخ له، وقد أنكر على علماء القيروان عدم خروجهم منها حين سيطر عليها العبيديّون الفاطميّون، لكنّ بعضهم أجابه "اسكت! لا شيخ لك". قال القاضي عياض مبيّنا ذلك: "أي لأنّ درسه كان وحدَه، ولم يتفقّه في أكثر علمه على إمام مشهور، وإنّما وصل إلى ما وصل بإدراكه، ويشيرون أنّه لو كان له شيخ يفقّهه حقيقة الفقه لعلمَ أنّ بقاءهم مع من هناك من عامّة المسلمين تثبيت لهم على الإسلام، وبقيّة صالحة للإيمان، وأنّه لو خرج العلماء عن إفريقية لتشرَّق [أي صار على مذهب العبيديين الذين جاؤوا من المشرق] مَن بقي فيها من العامّة الألف والآلاف، فرجّحوا خير الشرّين".

والإمام الداودي من خير من يُذكّرنا بالشيخ الألباني، سواء لقلّة شيوخهما (كلاهما تلقّى عن عدد محدود جدّا من المشايخ وعُدّ ممن لا شيخ له)، أو بسبب تشابه فتوى الداودي (مع الفارق) بفتوى الشيخ الألباني حين سئل عن الهجرة من فلسطين، فقد استدلّ بهجرة النبيّ صلى الله عليه وسلّم من مكّة وهي أفضل من بيت المقدس على حدّ تعبيره، وإن كان قد نفى ذلك لاحقًا، لكنّ كلامه حول الأمر وإثارته كان إشكاليّا جدّا وأنكر عليه أهل العلم ولم يوافقوه عليه.

لكن هل أدّى موقف العلماء إلى إسقاط الداودي والإضراب عن علمه ومصنّفاته؟

التاريخ يخبرنا بقصّة أخرى، فالداودي الذي كان درسه وحده ولم يتفقّه في أكثر علمه على إمام مشهور ووصل إلى ما وصل بإدراكه – كما يخبرنا القاضي عياض – ترك من العلم ما انشغل به العلماء المحقّقون. وقد أثنى عليه غير واحد من أهل العلم منهم القاضي عياض نفسه الذي قال عنه: "من أئمة المالكية بالمغرب، والمتّسعين في العلم، المجيدين للتأليف... كان فقيهًا فاضلًا عالمًا متفنّنًا مؤلّفًا مجيدًا، له حظّ من اللسان والحديث والنَّظَر".

وقال عنه الإمام السهيلي صاحب "الروض الأُنُف": "غير أنّ الداودي من أهل الثقة والعلم".

وقد ذكره في سياق المدح والاعتراف بإمامته قوم من العلماء منهم الإمام القرطبي صاحب التفسير، والإمام الشاطبي صاحب الموافقات، والإمام الذهبي، والإمام ابن فرحون والإمام زين الدين العراقي وغيرهم.

فانتفعوا يا معشر طلبة العلم بما أفاد به الألباني عالَم الحديث والتحقيق، واضربوا صفحا عن أخطائه وزلاته، وراجعوا نقّاده المجيدين فيما قدّم من علوم، فأنتم على ربوة عالية تشرفون منها على الصواب والخطأ، فتتعلّمون من تجارب السابقين، وتضيفون ما ينفع هذه الأمة إن شاء الله.



group-telegram.com/sharefmg/810
Create:
Last Update:

لست من المعجبين بفكر الشيخ الألباني رحمه الله وأجزل له العطاء، بل لديّ نفورٌ شديد من بعض فتاويه وأطروحاته، لكنّ فكرة الطعن فيه وإهدار قيمته تمامًا لأنّه "لا شيوخ له"، وربط الأخطاء التي جاء بها في المنهج والفتاوى كلها بهذا الأمر فكرة غير صائبة بنظري. لدينا جيش من المشايخ المعاصرين ممن كان لهم شيوخ تقليديّون كبار وقد جاؤوا بطوامّ تفوق ما جاء به الألباني، فماذا نفعهم أخذهم عن المشايخ؟

لدينا مفتٍ سابق قديم لمصر صرف كثيرا من آيات القرآن عن حقيقتها وأوّلها تأويلا يناسب التطوّر العلمي الحديث، فضلا عن علاقات وآراء وأفكار طعن فيه من أجلها بعض المتشرّعة، فهل نلغي كلّ علمه ونهدره تمامًا وننكر كل فضيلة له؟

ولدينا طوام من بعض مَن تلقّوا العلم الشرعي "على أصوله" على الشيوخ، فلم يعصمهم التلقّي عن الشيوخ عن الخطأ والزلل والانحراف، فليست الاستقامة الفكرية أو العلمية أو الأخلاقية منوطة بهذا، بل هي منحة من الله يكرم بها عباده المصطفين الذين يطلبون هدايته في كل حين، فهو وحده سبحانه الهادي إلى سواء السبيل، وهو وحده الذي يرشدنا إلى الصواب.

لا أقول هذا لأقلل من قيمة التلقّي عن الشيوخ معاذ الله، بل من وجد شيخا يتصف بالعلم والخلق واستقامة السيرة فلينكب على النهل من علمه وأخلاقه، وليعلم أنه لن يجد في الكتب والصوتيات والمقاطع المرئية ما يجده في إرشاد وتعليم من شيخ فاضل ممتلئ بالعلم والأخلاق.

ونحن في هذا العصر نسدّد ونقارب، فنبذل غاية الوسع في تلقّي العلم، فمن العلم ما يجري في قلبك وعقلك في خلواتك التي تناجي فيها الربّ سبحانه وتستعينه وتستغفره وتستهديه. ومن العلم مجالسة الشيوخ والعلماء وسؤالهم والأخذ عنهم وتدوين ملاحظاتهم وتصويباتهم. ومن العلم ما يتفتّح في ذهنك وقلبك وأنت تقرأ تفسير كتاب الله وشروح السنن. ومن العلم ما تشاهده من دروس وفّرت لنا الوسائل الحديثة نقلها بأحسن صورة. ومن العلم ما يحصل من مراسلات بين طلبة العلم والعلماء في كلّ فنّ.. إلى غير ذلك من الوسائل.

فهذه كلها وسائل تتفاضل فيما بينها، ويختلف أثرها من شخص إلى آخر، ومن عصر إلى آخر، ومن مكان إلى آخر. لكنّ اللبيب من لا تلهيه الوسيلة عن نشدان الحقيقة، ولا تشغله تفاصيل الدروب عن طلب الغايات. والعبرة في النهاية فيما ينتج الإنسان من علم، فيقوّمه أهل العلم بما لديهم من علوم ودلائل، لا بما لديهم من ألقاب ومكانة.

وهذا الإمام أحمد بن نصرٍ الداودي المسيلي المالكي (ت 402 هـ) كان ممّن عُرف أنّه لا شيوخ له، وقد أنكر على علماء القيروان عدم خروجهم منها حين سيطر عليها العبيديّون الفاطميّون، لكنّ بعضهم أجابه "اسكت! لا شيخ لك". قال القاضي عياض مبيّنا ذلك: "أي لأنّ درسه كان وحدَه، ولم يتفقّه في أكثر علمه على إمام مشهور، وإنّما وصل إلى ما وصل بإدراكه، ويشيرون أنّه لو كان له شيخ يفقّهه حقيقة الفقه لعلمَ أنّ بقاءهم مع من هناك من عامّة المسلمين تثبيت لهم على الإسلام، وبقيّة صالحة للإيمان، وأنّه لو خرج العلماء عن إفريقية لتشرَّق [أي صار على مذهب العبيديين الذين جاؤوا من المشرق] مَن بقي فيها من العامّة الألف والآلاف، فرجّحوا خير الشرّين".

والإمام الداودي من خير من يُذكّرنا بالشيخ الألباني، سواء لقلّة شيوخهما (كلاهما تلقّى عن عدد محدود جدّا من المشايخ وعُدّ ممن لا شيخ له)، أو بسبب تشابه فتوى الداودي (مع الفارق) بفتوى الشيخ الألباني حين سئل عن الهجرة من فلسطين، فقد استدلّ بهجرة النبيّ صلى الله عليه وسلّم من مكّة وهي أفضل من بيت المقدس على حدّ تعبيره، وإن كان قد نفى ذلك لاحقًا، لكنّ كلامه حول الأمر وإثارته كان إشكاليّا جدّا وأنكر عليه أهل العلم ولم يوافقوه عليه.

لكن هل أدّى موقف العلماء إلى إسقاط الداودي والإضراب عن علمه ومصنّفاته؟

التاريخ يخبرنا بقصّة أخرى، فالداودي الذي كان درسه وحده ولم يتفقّه في أكثر علمه على إمام مشهور ووصل إلى ما وصل بإدراكه – كما يخبرنا القاضي عياض – ترك من العلم ما انشغل به العلماء المحقّقون. وقد أثنى عليه غير واحد من أهل العلم منهم القاضي عياض نفسه الذي قال عنه: "من أئمة المالكية بالمغرب، والمتّسعين في العلم، المجيدين للتأليف... كان فقيهًا فاضلًا عالمًا متفنّنًا مؤلّفًا مجيدًا، له حظّ من اللسان والحديث والنَّظَر".

وقال عنه الإمام السهيلي صاحب "الروض الأُنُف": "غير أنّ الداودي من أهل الثقة والعلم".

وقد ذكره في سياق المدح والاعتراف بإمامته قوم من العلماء منهم الإمام القرطبي صاحب التفسير، والإمام الشاطبي صاحب الموافقات، والإمام الذهبي، والإمام ابن فرحون والإمام زين الدين العراقي وغيرهم.

فانتفعوا يا معشر طلبة العلم بما أفاد به الألباني عالَم الحديث والتحقيق، واضربوا صفحا عن أخطائه وزلاته، وراجعوا نقّاده المجيدين فيما قدّم من علوم، فأنتم على ربوة عالية تشرفون منها على الصواب والخطأ، فتتعلّمون من تجارب السابقين، وتضيفون ما ينفع هذه الأمة إن شاء الله.

BY شريف محمد جابر


Warning: Undefined variable $i in /var/www/group-telegram/post.php on line 260

Share with your friend now:
group-telegram.com/sharefmg/810

View MORE
Open in Telegram


Telegram | DID YOU KNOW?

Date: |

In February 2014, the Ukrainian people ousted pro-Russian president Viktor Yanukovych, prompting Russia to invade and annex the Crimean peninsula. By the start of April, Pavel Durov had given his notice, with TechCrunch saying at the time that the CEO had resisted pressure to suppress pages criticizing the Russian government. In a message on his Telegram channel recently recounting the episode, Durov wrote: "I lost my company and my home, but would do it again – without hesitation." In the United States, Telegram's lower public profile has helped it mostly avoid high level scrutiny from Congress, but it has not gone unnoticed. Telegram has become more interventionist over time, and has steadily increased its efforts to shut down these accounts. But this has also meant that the company has also engaged with lawmakers more generally, although it maintains that it doesn’t do so willingly. For instance, in September 2021, Telegram reportedly blocked a chat bot in support of (Putin critic) Alexei Navalny during Russia’s most recent parliamentary elections. Pavel Durov was quoted at the time saying that the company was obliged to follow a “legitimate” law of the land. He added that as Apple and Google both follow the law, to violate it would give both platforms a reason to boot the messenger from its stores. The Securities and Exchange Board of India (Sebi) had carried out a similar exercise in 2017 in a matter related to circulation of messages through WhatsApp.
from ca


Telegram شريف محمد جابر
FROM American