Telegram Group & Telegram Channel
شجرة لا تقربها العصافير
كان في عيني العجوز العانس التسعينية دمعتان، كأنها وهي في خرفها تدرك أنها خرفت، وأنها لم تستطع مقاومة الخرف الذي غافلها في الحجرة وهي تنظر من النافذة من خلف القضبان، فحبسها في الحجرة أبناء وبنات إخوانها، متمنين أن يعجل الموت إلى تلك المرأة التي ربتهم قبل أن يسخر الناس من فلتات لسانها.
كانت عند النافذة منذ أسبوعين، في ساعة عصر، ساهمة في شجرة التين العجوز، التي لا تقربها العصافير أبدًا، ثم أخذت عصاها وخرجت تضرب أشباحًا حول الشجرة وهي تبكي.
هؤلاء الذين التفوا حولها ليعودوا بها إلى البيت، تكدَّرت مشاعرهم تجاهها، فقد كانت تنادي على رجل لا وجود له، (خدني وراك على الفرس يا تهامي)، كانت تقول ذلك وهي تنظر نظرات شديدة الظمأ إلى طيف يمضي بين الحقول؛ وبعد أن أدخلوها حجرتها، بدأوا بحرص يتتبعون من تسموا بهذا الاسم خلال قرن، فوجدوا في أجيال مختلفة ثلاثة حفاة لا يركبون غير الحمير؛ إلى أن وصلوا للأقدم، فوجدوا معاصرًا لها لو كان حيًا لكان عمره الآن مائة سنة، هو التهامي الوحيد الذي ركب الفرس، شابً بهي وسيم متأنق قوي، كان يعيش في البلد في الزمن الماضي، ومات بعد عرسه بثلاثة أشهر.
كان في المولد بثوبه الأخضر الهفهاف، وطاقيته الشبيكة، واقفًا عند لعبة المدفع، رمي في فمه حبات سكر النبات وأخذ يجرشها، ابتسامته كشفت أسنانه البيضاء الناصعة، وسنته الذهبية المتألقة، وأشار للغجري ليضع طارة حديد إضافية، وشمر كميه، ونفخ في كفيه، وأخذ يزيح ويسحب المدفع على المجرى ليجمع عزمه، إلى أن دفعه بقوة وأطلقه من قبضته القوية، ليرتطم بالقائم، ليصيح المتفرجين، وبينهم أعين حاسدة كانت تلتهمه.
في تلك اللحظات الكاملة التي يبدو فيها الموت بعيدًا جدًا، والتي يسبح فيها الصوفيون على أطراف المولد في فيوضات الأنوار الناعسة للفوانيس المطلية بلون الكهرمان، التي قلَّبت فيما قلبت أوجاع العشَّاق الذين تخلَّى عنهم خلانهم الذين كانوا معهم في المولد الماضي وهم أتوا الليلة يمضغون مواجيدهم مع صوت الناي، في تلك اللحظات أخذه الخدر والانجذاب، إلى عيني كلب هادئ بشكل خبيث، كانت عيناه في بحر الكهرمان كجذوتين مهتزتين وسط الظلام ترسلان وميضهما من بعيد. بغتةً عضَّه الكلب واختفى كما لو كان وهمًا، واجتمع الناس على الشاب الذي صرخ صرخة واحدة.
عاش بعدها حائرًا في لعابه المستمر، وشعره الذي أخذ في التساقط، يستجدي بعينيه حلًا من زحام زوَّار لا حول لهم ولا قوة، إلى أن أصابته حالة هيجان اضطرت أهله لربطه في شجرة التين الشابة من يديه وجذعه، تحت عينيها الذاهلتين الحائرتين، تقاسمه أوجاعه المستبدة وهو لا يدري عنها شيئًا، حتى مات بعد أن طرد صراخه العصافير منها للأبد.
لقد أخرج الخرف من القاع السحيق لبئر الأيام البعيدة حبًا قديمًا صامتًا له، حبًا لم يلفت انتباهه، مر عليه ثمانون عامًا؛ انتشل الصبوة المكبوتة، والدموع المحبوسة ليلة إصابته، ونهار موته، لفتاة من خلف النافذة وقضبانها الحديد، تنظر إلى فتى البلد يمر كالحلم فوق فرسه، ساربًا في حقول النهار.



group-telegram.com/mtawfiq114/699
Create:
Last Update:

شجرة لا تقربها العصافير
كان في عيني العجوز العانس التسعينية دمعتان، كأنها وهي في خرفها تدرك أنها خرفت، وأنها لم تستطع مقاومة الخرف الذي غافلها في الحجرة وهي تنظر من النافذة من خلف القضبان، فحبسها في الحجرة أبناء وبنات إخوانها، متمنين أن يعجل الموت إلى تلك المرأة التي ربتهم قبل أن يسخر الناس من فلتات لسانها.
كانت عند النافذة منذ أسبوعين، في ساعة عصر، ساهمة في شجرة التين العجوز، التي لا تقربها العصافير أبدًا، ثم أخذت عصاها وخرجت تضرب أشباحًا حول الشجرة وهي تبكي.
هؤلاء الذين التفوا حولها ليعودوا بها إلى البيت، تكدَّرت مشاعرهم تجاهها، فقد كانت تنادي على رجل لا وجود له، (خدني وراك على الفرس يا تهامي)، كانت تقول ذلك وهي تنظر نظرات شديدة الظمأ إلى طيف يمضي بين الحقول؛ وبعد أن أدخلوها حجرتها، بدأوا بحرص يتتبعون من تسموا بهذا الاسم خلال قرن، فوجدوا في أجيال مختلفة ثلاثة حفاة لا يركبون غير الحمير؛ إلى أن وصلوا للأقدم، فوجدوا معاصرًا لها لو كان حيًا لكان عمره الآن مائة سنة، هو التهامي الوحيد الذي ركب الفرس، شابً بهي وسيم متأنق قوي، كان يعيش في البلد في الزمن الماضي، ومات بعد عرسه بثلاثة أشهر.
كان في المولد بثوبه الأخضر الهفهاف، وطاقيته الشبيكة، واقفًا عند لعبة المدفع، رمي في فمه حبات سكر النبات وأخذ يجرشها، ابتسامته كشفت أسنانه البيضاء الناصعة، وسنته الذهبية المتألقة، وأشار للغجري ليضع طارة حديد إضافية، وشمر كميه، ونفخ في كفيه، وأخذ يزيح ويسحب المدفع على المجرى ليجمع عزمه، إلى أن دفعه بقوة وأطلقه من قبضته القوية، ليرتطم بالقائم، ليصيح المتفرجين، وبينهم أعين حاسدة كانت تلتهمه.
في تلك اللحظات الكاملة التي يبدو فيها الموت بعيدًا جدًا، والتي يسبح فيها الصوفيون على أطراف المولد في فيوضات الأنوار الناعسة للفوانيس المطلية بلون الكهرمان، التي قلَّبت فيما قلبت أوجاع العشَّاق الذين تخلَّى عنهم خلانهم الذين كانوا معهم في المولد الماضي وهم أتوا الليلة يمضغون مواجيدهم مع صوت الناي، في تلك اللحظات أخذه الخدر والانجذاب، إلى عيني كلب هادئ بشكل خبيث، كانت عيناه في بحر الكهرمان كجذوتين مهتزتين وسط الظلام ترسلان وميضهما من بعيد. بغتةً عضَّه الكلب واختفى كما لو كان وهمًا، واجتمع الناس على الشاب الذي صرخ صرخة واحدة.
عاش بعدها حائرًا في لعابه المستمر، وشعره الذي أخذ في التساقط، يستجدي بعينيه حلًا من زحام زوَّار لا حول لهم ولا قوة، إلى أن أصابته حالة هيجان اضطرت أهله لربطه في شجرة التين الشابة من يديه وجذعه، تحت عينيها الذاهلتين الحائرتين، تقاسمه أوجاعه المستبدة وهو لا يدري عنها شيئًا، حتى مات بعد أن طرد صراخه العصافير منها للأبد.
لقد أخرج الخرف من القاع السحيق لبئر الأيام البعيدة حبًا قديمًا صامتًا له، حبًا لم يلفت انتباهه، مر عليه ثمانون عامًا؛ انتشل الصبوة المكبوتة، والدموع المحبوسة ليلة إصابته، ونهار موته، لفتاة من خلف النافذة وقضبانها الحديد، تنظر إلى فتى البلد يمر كالحلم فوق فرسه، ساربًا في حقول النهار.

BY محمود توفيق


Warning: Undefined variable $i in /var/www/group-telegram/post.php on line 260

Share with your friend now:
group-telegram.com/mtawfiq114/699

View MORE
Open in Telegram


Telegram | DID YOU KNOW?

Date: |

"There are several million Russians who can lift their head up from propaganda and try to look for other sources, and I'd say that most look for it on Telegram," he said. "Someone posing as a Ukrainian citizen just joins the chat and starts spreading misinformation, or gathers data, like the location of shelters," Tsekhanovska said, noting how false messages have urged Ukrainians to turn off their phones at a specific time of night, citing cybersafety. Now safely in France with his spouse and three of his children, Kliuchnikov scrolls through Telegram to learn about the devastation happening in his home country. The channel appears to be part of the broader information war that has developed following Russia's invasion of Ukraine. The Kremlin has paid Russian TikTok influencers to push propaganda, according to a Vice News investigation, while ProPublica found that fake Russian fact check videos had been viewed over a million times on Telegram. For Oleksandra Tsekhanovska, head of the Hybrid Warfare Analytical Group at the Kyiv-based Ukraine Crisis Media Center, the effects are both near- and far-reaching.
from cn


Telegram محمود توفيق
FROM American