Telegram Group Search
يحسب بعض الناس أنَّ الشبهات الشائعة إذا رُدَّ عليها ردًا قويًا محكمًا فإنَّ أثرها يزول، وأنَّ الجدل حول أصول الإسلام إن كانت الردود الممثلة للحق أقوى فإنَّ هذا يعني أنَّ المصلحة أعظم، وأنَّ هذا أنفع.

والحق أنَّ الحال ليس كذلك، فشيوع الشبهات خطرها كبير حتى ولو كانت الردود عليها قاصمة.

وذلك أنَّ الأصل أن يتلقى المسلم أصول دينه تلقي علمٍ وعمل، فيتعلم ما ينفعه، ويعمل به، فيكون الشائع هو تعلُّم الاحكام، وفهمها، والبحث عن مظانها، ثم العمل بها، والانتفاع بما فيها من خير وصلاح في الدين والدنيا، وأما إن تحولت إلى جدلٍ في أمرها، ونقاش كبير حولها، وتشكيك فيها، فهذا ضرره أعظم، ولن يزيله أي رد مهما كان.

وذلك أنَّ أكثر النفوس لا تحتمل هذا الجدل ولا تطيقه ولا تحسن التعامل معه، فشيوع مثل هذا الجدل وانتشاره وكثرة التركيز عليه هو سبب عظيم من أسباب الحيرة، والشك، والضعف عن القيام بأحكام الشرع، والإعراض عن أصوله وفروعه.

ولهذا كان موقف سلف هذه الأمة بصيرًا بأمرها، فتشددهم في أمر الجدل والشبهات كان مبنياً على فقهٍ بصيرٍ بحالها، وحال النفوس معها، ولهذا كانوا يذكرون من المعاني: معنى الحيرة التي تثمرها هذه الجدالات.

فالردود القائمة على علمٍ وعدلٍ مشكورة ونافعة، لكنها مهما قويت ليست كافية، فما الحل إذن؟

الحل في أمرين:

الأول: الحرص على نشر العلم، وبيان السنة، وتوضيح الحق بأدلته وبراهينه، بدون جدل، ولا رد على الشبهات، ولا خصومة مع أحد،

فيجب أن لا تكون العناية بأمر الجدل مع المنحرفين غالبًا ولا مقاربًا ولا مضعفًا لهذا البناء، ولئن حُمد لمن يرد على الباطل ويجادل أهله عند الحاجة، فإن هذا يجب أن لا يغفل عن واجبٍ أعظم منه وهو نشر العلم والسنة.

الأمر الثاني: التخفف من أمر الجدل والردود إلى الحد الواجب، وعدم التوسع فيه بأدنى سبب، ومع أدنى حاجة،

بل يجب أن يكون المسلم واعيًا بهذه الحقيقة الشرعية والنفسية، وأن الجدل مهمش للحق، ومضعف لتمسك النفوس به، فيجب أن يكون الرد والجدل في حده الأدنى القائم على الاستثناء، والحاجة، والعارض، لا أن يدور معه المسلم، ويبحث عنه، ويستثيره، ويتحرك وفق معطياته.


كما أنَّ على المسلم أن يتجنبه، ولا يتعرَّض له بدون حاجة، وإذا لم يمكنه أن يغلق فضاء الجدل بسبب هذا الانفتاح فإن العاقل يستطيع أن يتحكم بما يسمع ويشاهد ويقرأ، وهو في سعةٍ من أمره، فليس هو بحاجة أن يلاحق موضوعات الجدل، ولا يدور حولها، ولا ينشغل بها، أو يكون غذاؤه من العلم بالشرع أو أكثره قد جاء إليه من هذه الطريقة.

وبطبيعة الحال فليس المقصود هنا التزهيد من أي جهدٍ في الرد على الشبهات أو مجادلة أصحابها، فهذا عمل صالح محمود إن كان بعلم وعدل، وإنما التأكيد على مثل هذه المعاني المهمة حتى تكون ضابطة لهذه الجهود وحاكمة عليها.

وهو أمر مهم وملح جدًا، لأن طبيعة الجدل والردود والنقاش حولها يتسع، ويزيد، ويتمدد في موضوعات جديدة، فيغفل الانسان عن ملاحظة هذا الامر، فيظن انه على خير وصلاح ونفع لان أصل الامر كان كذلك، ولا يتفطن لما تثيره الخصومات من توسع يبعد الإنسان عن الجادة، ويحرك الاهواء، ويضعف مقصد الحق، ويغفل معه عما هو أهم منه.
الأسئلة الجيدة، والاستشكالات المميزة بابٌ يفتح فيه للإنسان من النفع والفائدة ما لا يمكن الوصول إليه بدونه.

من هذه الأسئلة الجيدة ما يذكره العلماء من استشكال في الجمع بين قول النبي صلى الله عليه وسلم (ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)، والذي قيل إنه جاء في قصة مهاجر أم قيس، فذم على هذه الهجرة.

بينما مُدحت أم سليم على أنها لم تقبل بأبي طلحة زوجًا إلا بعد أن يسلم، وجعلت صداقها إسلامه, فأسلم وتزوجها، فكان أكرم مهر وأشرفه.

وقد تعرَّض ابن عبيد الله السقاف في كتابه (بلابل التغريد) لهذا السؤال، وذكر في أول الأمر جوابين لأهل العلم:

الجواب الأول: أنه ليس في قصة أم سليم أنَّه أسلم ليتزوجها، وإنما رغب في الإسلام بعد امتناعه.

الجواب الثاني: تضعيف القصة.

وقد ردَّ هذين الجوابين لما فيهما من ضعفٍ،  وارتضى جوابًا ثالثًا وهو:

التفريق بين أثر الهجرة، والدخول في الإسلام، فالهجرة أقل في التأثير من الدخول في الإسلام، فالدخول في الإسلام يجبُّ ما قبله قطعًا، ويمحو الذنوب كلها ظاهرًا وباطنًا، وأما ما جاء من تكفير الذنوب في الهجرة ونحوها فهو دون ذلك.

والجواب ليس ظاهرًا، لأنَّ الإشكال ما زال قائمًا، فما الذي جعل نية مهاجر أم قيس مذمومة مع أنَّه هاجر، ولم تنفعه هجرته، بخلاف نية من أسلم ليتزوج؟

فالأقرب أنَّ ثم وجهين آخرين هما أقرب مما ذكر الشيخ، وهما:

الوجه الرابع، وقد ذكره بعض العلماء وخلاصته: أنَّ الرغبة في النكاح لا تنافي الرغبة الحقيقية في الدين، فهو قد رغب في الإسلام صدقًا وإيمانًا، ثم سيحصل بعد ذلك مثل هذه المصلحة.

الوجه الخامس: وعندي أنَّه أقوى وأطرد، وهو أثر مقصد الشارع في الترغيب في الإسلام، وأنَّ الشريعة تتشوَّف لذلك، وتتوسَّع فيه، وشواهد هذا كثيرة جدًا، يتحصَّل منها مقصد كلي في اعتبار الشريعة لما فيه حث على الدخول في الدين رغبة أو رهبة أو طمعًا أو لأي سببٍ كان.

وهو يختلف عن فعل الطاعات من الصلاة والصيام والهجرة ونحوها فليس فيها مثل هذا المعنى، لوجود فرق ظاهر بين الدخول في الإسلام وبينها، وهو أنَّ من يدخل في الإسلام يرجى منه غالبًا أن يحسن حاله، ويصدق إسلامه، ويقوي إيمانه ويقينه، فلا يضره اللحظة الأولى التي دفعته لدخول الإسلام، بل كانت خيرًا له وبركة عليه أن أنقذته من النار،

بخلاف من يفعل الطاعات لغير ذلك فإنه يتلطخ بمفسدة عظيمة هي الرياء وإرادة غير وجه الله، ثم لا يترتب عليه مصلحة ظاهرة من الاستمرار في العمل أو قوة الإيمان أو انفتاح باب علمٍ أو عملٍ عليه، بل بالعكس يزيده هذا بعدًا  وضلالًا.

ففي هذا السؤال إبراز لشرف الترغيب في الإسلام، وكشف عن أصل الشريعة في توسيع أبوابه من جهة، وإظهار للمصلحة في ذلك وأنَّ هذا الدخول في الإسلام فيه من المصالح ما لا يساويه مثله كالترغيب في الطاعة، فهو كاشفٌ عن سعة الشريعة ورحمتها، وكاشفٌ عن حكمتها أيضًا.
 
يحمد المسلم ربَّه على نعمه التي لا تحصى، لكنَّ كثيرًا من المسلمين لا يستحضرون من هذه النعم إلا النعم الدنيوية الظاهرة كالطعام والشراب والصحة والذرية ونحو ذلك،

ويغفلون عما هو أعظم منها وهي النعم في الدين التي يقوم بها صلاح آخرته ونجاته يوم القيامة، كأن يحمد الله على أن هداه للإسلام، ونشأ بين والدين مسلمين، وقرأ القرآن، وحفظ بعض سوره وآياته، وحافظ على شعائر الإسلام، وتعلَّم كثيرًا من الأحكام، وتجنب الكبائر، ونحو ذلك.

فيُحمدُ المسلم على شكر النعم الدنيوية، ولكن يُذم على تفريطه في حمد النعم التي هي أعظم،

وفي ملاحظة هذا المعنى يقول أبو الدرداء رضي الله عنه فيما أخرجه الإمام أحمد في الزهد (19/5): (من لم ير لله عز وجل عليه نعمة إلا في المطعم والمشرب فقد قل فقهه، وحضر عذابه).

والمفرِّط في شكر النعم كلها يخشى عليه من زوالها وتبدل حالها، يحكي الامام أحمد في الزهد (٢٠/١٣) عن يزيد بن ميسرة عبارة ترجف القلوب، يقول فيها: (أحسنوا صحابة نعم الله عز وجل عليكم، فو الله ما أنفرها عن قوم فكادت أن ترجع إليهم).                     

وهذا لا يخص النعم الدنيوية فقط، بل هو شامل للنعم الدينية، فمن رزق إسلامًا وصلاحًا وتقوى وعبادة فإنَّ المفرط في شكر هذه النعم يخشى عليه من زوالها، ويخشى أكثر على شخصين:

الأول: من علم الواجبات فضيَّعها، وعلم المحرَّمات فاستهان بها، فلم ينتفع بنعمة العلم.

الثاني: من رزقه الله برد اليقين، وطمأنينة القلب، وراحة الإيمان فأخذ يبحث في الشبهات الصادة عن الدين ليحرك الشكوك ويثير الحيرة، فلم يقدر هذه النعمة العظيمة حقَّ قدرها.
يتردَّد عند عددٍ من المعاصرين نقد موقف السلف في مسألة خلق القرآن، فالقضية في نظرهم كان فيها إغراق في نزاعٍ لفظي، أو تكلُّف ما أنزل الله به من سلطانٍ، أو أنَّ الموقف كان فيه مبالغة أو تضخيم عن حقيقته، ويأتي توجيه النقد في هذا بصورة أكبر للإمام أحمد رحمه الله.

وهذا النقد في الحقيقة عند المعاصرين مسبوق بكلام بعض المتأخرين.

وهذا النقد لا يوجه إلى بعض المواقف الخاصة أو الجزئيات المتعلقة بهذه المسألة، وإنما يأتي على أصل هذه المسألة.

والحق أنَّ هذا تصور ساذج وقاصر جدًا، فالموقف في هذه القضية لم يكن رأيًا خاصًا لأحمد أو لفئةٍ معينةٍ تابعة له، أو تأثر بها بحيث يمكن أن يقال فيها مثل هذا الكلام، وإنما هو موقف طبقات متتابعة من أئمة السلف، في عصر الإمام أحمد، وقبله بكثيرٍ، فهو إجماع متوارث سائر على مسلك واحد، فالتعامل معه بهذه الطريقة هو تسذيج وتسطيح لموقف هؤلاء الأئمة في المسائل الكبار.

فإذا جئت إلى مسائل مما أجمع عليها أكابر هذه الأمة فلم تفهم وجه ذلك، فإنَّ العاقل يجعل هذا سببًا لأن يراجع نفسه ويفحص موقفه حتى يصحح فهمه، لا أن يبحث عن تفسيرٍ لما لم يفهمه، بل الواجب عليه أن يفهم الأمر على حقيقته، فهو كمن ينظر في حادثة قتال الردة في عهد أبي بكر رضي الله عنه فلا يفهم وجه ما حدث، ويرى أنه مخالف لأصول الشريعة، ثم يبحث عن تفسير ذلك، فالعقل يقول له لا تبحث عن تفسيرٍ لفهمك الخاطئ، وإنما ارجع فحاول تصحيح فهمك.

ولهذا فموقف السلف الشديد من هذه المسألة كاشف عن علمٍ بالشرع، وبصيرةٍ وعقلٍ وفهم، فهذا الموقف له عدة دوافع، من أهم هذه الدوافع: صيانة الفهم الصحيح لخطاب الوحي، وضمان معرفة مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم، فالخلل في هذا الباب خطر جدًا لأنه يؤثر على أصل الفهم عن الله وعن رسوله، ويعبث بمفاتيح الوصول إلى الحق.

فالقول بخلق القرآن ليس نزاعًا لفظيًا في عبارةٍ تطلق على القرآن أو تنفى عنه أو يتورَّع الشخص فيسكت عن الأمرين، وإنما هو ثمرة ونتيجة للموقف من صفة الكلام لله تعالى، والموقف من هذه الصفة هو في سياق الموقف من أسماء الله وصفاته، وهذا الموقف مستفاد من آيات كثيرةٍ في القرآن الكريم، ومن أحاديث متواترة في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فتحريف هذه النصوص كلها، وتأويلها على غير ظاهرها المقصود يحفر إشكالًا عظيمًا في كيفية فهم خطاب الوحي، ومعرفة مراد الله، ويضع العوائق ويعمق الصوارف الصادة عن الحق.

ويزيد من تعميق الإشكال أكثر ويوسع ضرره أنه مبني على أصول عقلية مسبقة تحاكم إليها دلائل الوحي، فلا يكون خطاب الوحي هو الأساس الذي يحتكم إليه عند الاختلاف، وإنما هو خاضع لهذا المنهج المحدث.

ولهذا يشيع في آثار السلف تأكيد هذا المعنى كثيرًا، والتعبير عنه بمعانٍ مختلفة، من ذلك ما قاله الإمام أحمد: (ما أحدٌ على أهل الإسلام أضرّ من الجهميّة، ما يريدون إلّا إبطال القرآن وأحاديث رسول الله).

وحين نذهب إلى شيخ الإسلام ابن تيمية وهو من أخبر الناس بهذه المسألة، ومن أعلم الناس بالخلاف الكلامي مع مذهب السلف وآثاره، فإنك تجده يكرر هذا المعنى كثيرًا، ويثبته في مفصَّل المسائل، فيقول مثلاً في بعض آثار هذا الخلل في الفهم: (فإنه بهذا الطريق تمكنت القرامطة الزنادقة الملاحدة من إفساد دين الإسلام؛ حيث احتجوا على كل مبتدع بما وافقهم عليه من البدعة من النفي والتعطيل، وألزموه لازم قوله، حتى قرروا التعطيل المحض).            

ويذكر الشيخ من أمثلة ذلك استطالة الفلاسفة على المتكلمين، فألزموهم بتأويل ما جاء من نصوص الجنة والنار والبعث الحقيقي للأجساد كما تأولوا آيات الصفات، فإذا فتحت باب التأويل على غير هدى، وسوغت تحريف الدلائل القطعية في بابٍ معين، فإنَّ هذا يضرب أصل باب الفهم، ويكسر قاعدة الاستدلال، ويجعل تمسكك بالقطع في بابٍ دون بابٍ لا معنى له، فما معنى أن تشدد في الآيات الواردة في الجنة والنار والبعث وتكفر من ينكرها، وأنت تتأول نفس النصوص القطعية في بابٍ آخر؟

ويقال مثل هذا مع بعض المعاصرين، فإذا هونت من المنهج الذي يتأول النصوص في باب الاعتقاد عن الله بناءً على أصوله العقلية المحدثة، فكيف يستقيم لك الرد على التأويل الحداثي المعاصر الذي يتأول كافة الأحكام والشرائع بناءً على منهج عقلي محدث؟!

فلا معنى لأن تتمسَّك بالقطعية في هذا الباب، وتشدد النكير على من يخالفه إلا بعد أن يستقر عندك وجود فهم قطعي، ودلائل ظاهرة،  وإجماعٍ للأمة، قائم على منهج التسليم لله ورسوله، والاحتكام لخطاب الوحي عند الاختلاف، والخلاف في مسألة خلق القرآن يعبث بهذه المنطلقات كلها.

ولهذا شدد السلف في هذا الباب لأنهم يريدون حفظ الدين كله، بخلاف غيرهم ممن يدرك أهمية حفظ الدين في باب دون بابٍ، فهو يشدد على التحريف في الباب الذي يدرك خطورته، ويستهين بما عداه، أو لا يتفطن للخلل فيه.
يدرك الناس عادة أهمية الصدق فيما يخبرون، وأنَّ الكذب مذموم حتى على الأعداء والخصوم،

لكن ما قد يخفى على كثيرٍ منهم أنَّ من مقتضيات الصدق أن يقبل خبر الصادق، ولا يكذبه لأجل هوى أو خصومة أو عداء أو خلاف.

وكما يتجنب الكذب على مخالفيه، فيجب أن يُصدِّق ما يقولونه من الحق والعدل، ولا يمنعه ما هم عليه من ضلالٍ أو عداوةٍ على تكذيب الصدق.

وهو معنى لطيف نبه عليه شيخ الإسلام ابن تيمية مستدلًا على ذلك بقوله تعالى ( والذي جاء بالصدق وصدق به)، فمرتبة الصديقية تقتضي أن يكون صادقًا، وأن يُصدِّق بالصدق أيضًا.

يقول الشيخ في هذا المعنى:

(وأنت تجد كثيرًا من المنتسبين إلى علمٍ ودينٍ لا يَكذبون فيما يقولونه، بل لا يقولون إلا الصدق، لكن لا يقبلون ما يخبر به غيرهم من الصدق، بل يحملهم الهوى والجهل على تكذيب غيرهم وإن كان صادقًا: إما تكذيب نظيره، وإما تكذيب من ليس من طائفته.

ونفس تكذيب الصادق هو من الكذب، ولهذا قرنه بالكاذب على الله، فقال : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ).

فكلاهما كاذب:

هذا كاذبٌ فيما يخبر به عن الله،

وهذا كاذبٌ فيما يخبر به عن المخبر عن الله).



منهاج السنة النبوية (٧/ ١٩٢).
الحكم في الكف عما شجر بين الصحابة يشمل أيضًا الكف عن غيرهم من أهل العلم والفضل في هذه الأمة في الطبقات التي تليهم، فكلُّ طبقةٍ تستعمل مع التي قبلها الدعاء لها بالمغفرة.
 
هذا من المعاني العظيمة التي أكَّد عليها أبو العباس ابن تيمية في عددٍ من المواضع، وهو من استدلالته الحسنة الكاشفة عن بصيرةٍ وعقلٍ وفقهٍ،


فالمعنى الذي من أجله يجب أن تكفَّ الألسن عن الانشغال فيما لا ينفع مما شجر بين الصحابة، وما يثيره من مفاسد، هو نفسه متحقق في الطبقات التي تليهم وإن كان دونه في المصلحة والمفسدة.

وهذا المعنى له ثمرة مصلحية عظيمة، ولا يترتب عليه أي مفسدة في الدين، لأنه لا يعني ترك بيان الحق، ونشره، والرد على الباطل، وإنما يجب أن يكون ذلك نصحًا في حدود الحاجة، وبما يحقق المصلحة، من دون بغي أو استطالة، ولا تضييع لحقوق الإخوة، ولا خوض فيما لا ثمرة منه، فيجتمع معها حفظ الدين، وبيان الحق، وسد منافذ التفرق والاختلاف عليه.
 
وهذه بعض نصوص الشيخ رحمه الله في توضيح هذا المعنى السلوكي الإيماني:


١-
(ولهذا ينهى عما شجر بين هؤلاء سواء كانوا من الصحابة أو ممن بعدهم، فإذا تشاجر مسلمان في قضية، ومضت ولا تعلق للناس بها، ولا يعرفون حقيقتها، كان كلامهم فيها كلامًا بلا علم ولا عدل يتضمن أذاهما بغير حق، ولو عرفوا أنهما مذنبان أو مخطئان، لكان ذكر ذلك من غير مصلحة راجحة من باب الغيبة المذمومة).

٢-
(وذكروا أشياء لا أُحِبُّ ذكرها؛ لأن المتكلِّم بها عظيم، والمتكلَّم به عظيم، وهم أئمة مجتهدون فالكلام في ذلك يُشبه الكلام فيما وقع بين الصحابة؛ إذ المعنى المقتضي لذلك يعم الصحابة وسائر طبقات الأمة؛ إذْ كُلُّ طبقةٍ مُتأخرة ينبغي أن تستعمل من الطبقة المتقدمة معنى هذه الآية: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلَّا لِلَّذِينَ ءَامَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾

ومعلوم أنّ كلام العلماء بعضهم في بعض - بالاجتهاد تارة، وبنوع من وغيره أخرى - يُشبه ما وقع بين بعض الصحابة وبعض من القال والفعال).

٣-
(بل نحن منهيون عن الكلام فيمن هو دون الصحابة بالكلام الذي تترجح مفسدته، وإن كان لأولئك ذنوب أو اجتهادات مخطئة أو غير ذلك، فإن الكلام فيما شجر بينهم بغير الوجه المشروع قد يكون:
-كذبًا،
-وبعضه تصديقًا للكذب وهذا كثير،
-وبعضه صدق وله وجوه حسنة في الباطن لا نعلمها،
-وبعضه صدق أيضًا، وهو من الاجتهاد الخطأ المغفور،
-وبعضه صدق وهي ذنوب،

فإنه ليس من أهل السنة من يعتقد في أحدٍ منهم أنه لم يكن له ذنبٌ، بل يكون لهم ذنوب فيتوبون منها أو تمحوها حسناتهم السابقة واللاحقة أو غير ذلك من الأسباب الماحية للذنوب،

ومع ذلك لا يجوز لأحد أن يقتدي بمذنبٍ في ذنبه كائنًا من كان، ولا أن يقدح فيه به إذا كان من الذنوب المغفورة كالخطأ والصغائر والكبائر الممحوة بثوابه أو حسنات ماحية أو غير ذلك، فكيف بالصحابة).
ذكر أبو العباس ابن تيمية قولًا للظاهرية في مسألةٍ فقهيةٍ، ثم انتقدهم فقال: (وهؤلاء يتكلمون أحيانًا بما يظنونه ظاهر اللفظ، ولا يتدبرون عواقب قولهم).                

وهذه صياغة نقدية معبرة جدًا، فهو يكشف سبب الخلل ونتيجته، وذلك فيمن يقتصر على ملاحظة اللفظ دون اعتبار للمعاني والمقاصد، ولا للآثار والمآلات.

وإذا وقع هذا الإشكال مع الجمود الظاهري في خطاب الشارع فإنَّ هذا الجمود الظاهري في خطاب غير المعصومين من العلماء والأئمة من السلف سيكون أكثر فسادًا وأظهر خللًا.

فبعض الناس يتمسك بما يلوح له من ظاهر اللفظ مما ينقل من كلام العلماء، ولا يهمه بعد معرفة المراد من اللفظ أي عواقب أخرى،

فيرى أنَّ من تعظيمه لكلام سلف الأمة أن يلتزم بظاهر ما نقل له منهم دون ملاحظة للمعاني، ولا نظر في المقاصد، ولا اعتبار للمآلات، ولا نظر فيما يعارضه، ونحو هذه الأمور التي توضح المعنى وتجلي المراد.

ولهذا ينسب بعضهم المعاني الفاسدة، والأقوال الباطلة إليهم، ولا يدري أنَّه بهذه الطريقة يسيء إلى السلف لا يعظمهم، فالمعنى الفاسد والقول الباطل لا يصير حقًا بمجرد أن ينسب إلى معظَّم.

فالجمود الظاهري في فهم كلام أئمة الإسلام له أثر سيء من مدخلين:

الأول: أن يكون فهمه خطأ، وقع فيه بسبب جموده على ظاهر اللفظ دون اعتبارٍ للعواقب، فترتب عليه نسبة المعاني الباطلة إليهم.

الثاني: أن يكون فهمه صحيحًا لما قالوه، لكنَّه يجمد على اللفظ ولا يفقه المعنى، فلا يلاحظ أنَّ هذا القول قد يكون اجتهادًا سائغًا، أو خطأ له فيه تأويل، أو خطأ مغتفرًا، ونحو هذا مما يحمل به كلام الأكابر على محملٍ حسن، فيتمسك به تمسًكا تامًا على صورة يراها هي ظاهره حتى يكون سببًا للاستطالة عليهم بهذه الأمور، التي لم يمكن أن تحدث لولا هذا الجمود الذي لا يلاحظ العواقب.

فهذا القصور مضر من هاتين الجهتين جميعًا: بنسبة المعاني الباطلة اليهم، أو بالإعراض عن الأوجه المعتبرة أو المغتفرة لأقوالهم، ومآل هذين الأمرين جميعًا إساءة لأهل العلم من حيث يراد تعظيمهم.
من التعليقات الطريفة للإمام أحمد رحمه الله، ما حكاه ابنه عبد الله فقال:

كنتُ بين يدي أبي جالسًا ذات يومٍ، فجاءت طائفةٌ من الكرخيين، فذكروا خلافة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فأكثروا، وذكروا خلافة ‌علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وزادوا فأطالوا، فرفع أبي رأسه إليهم فقال:

يا هؤلاء، قد أكثرتم القول في ‌علي والخلافة، ‌على أنَّ ‌الخلافة لم تُزيِّن عليًا، بل ‌عليٌّ زيَّنها.

قال  السياري راوي هذه القصة:

فحدثتُ بهذا الحديث بعض الشيعة فقال لي: قد أخرجتَ ‌نصف ما كان في ‌قلبي ‌على ‌أحمد بن حنبل من البغض.

هي حادثة معبرة، نفع الله بحسن تعبير هذا الإمام في إزاحة شر عظيم كان يحمله بعض الناس عليه،

وهذا يؤكد على معنى مهم، وهو أنَّ واسع العلم والعقل قادرٌ على جمع الكلمة وتخفيف الشر من دون أن يؤثر هذا على أصل الحق الذي يحمله،

وهذا مسلك معتدل بين طرفي نقيض:

طرفٌ يرى أهمية بيان الحق، والرد على الباطل، ولا يبالي بعد ذلك بأي معنى متعلق بجمع كلمة المسلمين، ولا إصلاح ما بينهم، لأنه يرى أنَّ ذلك من لوازم بيان الحق.

وطرفٌ يرى أهمية جمع الكلمة وتأليف القلوب، ويضعف اهتمامه ببيان الحق ورد الباطل لأنه يراه مضرًا بهذا الأصل.

والحق وسطٌ بينهما، فلا يصح التهاون في بيان الحق والسنة ورد الباطل بسبب الحرص على جمع الكلمة وتخفيف الشر، ولا يجوز أن يلغى أثر ذلك بسببه، بل ثم مساحة واسعة بينهما يتحقق بها أكثر ما يمكن من المصالح الشرعية المعتبرة

ومن تطبيقات هذا الباب مقولة ابن تيمية الشهيرة: (والناس يعلمون أنه كان بين ‌الحنبلية ‌والأشعرية وحشةٌ ومنافرةٌ، وأنا كنت من أعظم الناس تأليفًا لقلوب المسلمين وطلبًا لاتفاق كلمتهم، واتباعًا لما أمرنا به من الاعتصام بحبل الله، وأزلتُ عامة ما كان في النفوس من الوحشة).

وهو معنى يستشكله  من يرى أنَّ التمسك بالحق منافٍ لجمع الكلمة، لأنه لا يرى هذا ممكنًا إلا بالتهاون في أصل الحق،

وهو غلطٌ بيِّنٌ، وغفلةٌ ظاهرةٌ عن الأسباب المؤثرة في تقوية الحق، وتخفيف الشر، وتسكين المفاسد، وأنَّ ما يقع بين الناس بسبب الاختلاف العقدي ليس بالضرورة كله بسبب التمسك بالحق من طرفٍ والعناد من طرفٍ آخر، بل يتأثر بعوامل كثيرة، وهنا يأتي دور مسلك الحكمة الذي يغذيه سعة العقل والعلم في تكثير الخير، وتخفيف الشر، وتعظيم المصالح، والسعي في تحقيق مقاصد الشريعة كلها.
كنتُ أتساءل وأنا أقرأ عبارة ابن تيمية المعروفة: (والناس يعلمون أنه كان بين ‌الحنبلية ‌والأشعرية وحشةٌ ومنافرةٌ. وأنا كنت من أعظم الناس تأليفًا لقلوب المسلمين وطلبًا لاتفاق كلمتهم، واتباعًا لما أمرنا به من الاعتصام بحبل الله، وأزلتُ عامة ما كان في النفوس من الوحشة).

ما الذي فعله ابن تيمية حتى يحقق هذا المقصد في إزالة الوحشة، وتأليف القلوب، مع الاعتصام بالحق والسنة؟

لا أعرف للشيخ موضعًا شرح فيه هذا الأمر مفصَّلًا، وإنما ذكر الشيخ بعد هذا كلامًا كان يقوله لهم، يمكن بواسطته، وبمعرفة منهج الشيخ العام في التعامل مع الخلاف العقدي أن نلخص أبرز ما فعله الشيخ في المعالم التالية:

الأول: التوسُّع في إعذار المسلمين، وعدم تكفيرهم بما وقعوا فيه بسبب التأوُّل، وهو مسلكٌ ظاهرٌ في تأكيد الشيخ على ضرورة التفريق بين الوصف والعين، وعدم تنزيل أحكام الأوصاف على أعيان المجتهدين والمتأولين إلا بعد إقامة الحجة وانتفاء الشبهة، وأثر ذلك في رفع أوصاف الكفر والفسق والتأثيم، وتبع ذلك منهجه العملي في تحقيق هذا التأصيل الكلي في تعامله معهم،

وهذا من أعظم المسالك في إزالة الشحناء والوحشة بين المسلمين، ولهذا اعتنى الشيخ به عناية شديدة واسعة، ولهذا المسلك أثرٌ مهمٌ آخر وهو:

الثاني: حفظ حقوق الإسلام لمن يختلف معهم، فالشيخ يؤكد دائمًا على هذا المعنى، وهو ما يجمع النفوس على الحق ويقربهم إليه.

الثالث: التأكيد على الأصل المشترك الذي يجب أن يكون حكمًا عند الاختلاف، فالفيصل هو الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، وهو ما يجب دعوة الناس إليه، وتعليمهم إياه، وهو ما يجب عليهم اعتقاده واتباعه، وأما ما لم يوجد من مثل العبارات المجملة، أو المسائل والنزاعات التفصيلية التي أحدثت بعد ذلك فلا يلزم المسلم معرفتها،

وإذا جاء الشيخ إلى هذه المسائل والأقوال فصَّلها وبيَّن ما فيها من حق وباطل بعدلٍ، فيجمع بين أمرين: أنه يفصل هذه المسائل حتى يتضح ما فيها من صواب وخطأ، وحق وباطل، ثم يؤكد في نفس الأمر أنه لا يلزم الناس العلم بهذه المسائل المتأخرة، وإنما يكفي الرجوع إلى الكتاب والسنة.

الرابع: كفُّ اللسان عن الخوض في أعراض الأموات من المسلمين، وإحسان القول فيهم، وتفويض أمرهم إلى الله، فلا ينشغل معهم بخصومات تثير النفوس وتحرك الأهواء بلا ثمرة، بل تكون صادة عن اتباع الحق.

الخامس: الاستناد إلى قول معظَّمي كل طائفةٍ من العباد والعلماء والصالحين، فتجد عند الشيخ حرصًا ظاهرًا على إبراز ما عند مقدَّمي كل طائفة من الحق وموافقة السنة حتى يقرب الحق إلى أتباعهم.

السادس: ترك محاكمة الناس إلى الأشخاص، وردهم إلى نصوص الكتاب والسنة، فلا يجعل الشيخ لأي أحدٍ من الناس مهما كان معظمًا الفيصل بين الحق والباطل، ولا أن يمتحن الناس به، وهو ما يخفِّف الخصومات ويسكِّن المفاسد.

السابع: العدل في الحكم على مذهبهم وأعيانهم ومقولاتهم، فلا ينسب إليهم إلا ما هو ثابت عنهم، ويظهر ما عندهم من حق ويثني عليه، ويرد ما فيه من باطل من دون تجاوزٍ أو بغي، ويميز بين فئات المنتسبين إليهم فيتعامل مع كل فئةٍ بحسب قربها من الحق.

الثامن: ملاحظة ما يقومون به من نصرةٍ للدين، وقيامٍ بالعدل، وأمرٍ بالمعروف ونهي عن المنكر، ويعينهم على ما فيه حفظٌ لمصالح الناس في دينهم ودنياهم.

التاسع: العلم بمقولاتهم، ومآلاتها، وتفاصيل النزاع بينهم، فهو يحدثهم حديث عارفٍ خبيرٍ بها، بل يدلهم في بعض الأحيان على ما يجهلون من ذلك، ولا شك أنَّ هذا له أثرٌ عظيمٌ في تقريب الناس إلى الحق، أو تخفيف تعصبهم للباطل.

العاشر: مجيء كل هذا في قالب النصح، وإرادة الخير، والصدق في دلالة الخلق على الحق، الذي يريد وجه الله والدار الآخرة، فيتغافل عن حقوقه، ولا يغضب لنفسه، مع رفقٍ في الخطاب، ورحمة لهم معاملة بالحسنى، بما يحث النفوس على قبول الحق، والانقياد إليه، ويجتنب مسالك الخصومات التي تحرك الأهواء الصادة عن الحق.
 
تلك عشرة كاملة.

هي من المعالم التي يتضح بها أنَّ واسع العقل والعلم قادر على تعظيم المصالح وتخفيف المفاسد، من دون أن يؤثر هذا على أصل الحق الذي عنده، ولا لوازم بيان هذا الحق، أو الأحكام المترتبة عليه،

وهي معالم ترجع إلى سعةٍ في العلم، وعدلٍ في القول والحكم، وصدق ونصح للخلق، وحكمة في سياسة الناس، وسعي فيما يحقق مصلحة دينهم ودنياهم.
 
=
ويحسن التنبيه في آخره على أمرين:

الأول: أنَّ الحديث هو عن "تعظيم الخير" و "تخفيف الشر" و "توسيع المصلحة" و "تقليل المفسدة" وليس عن الإزالة والإعدام، فالخلاف موجود، والافتراق قائم، والفساد المترتب عليه عظيم، وهو قديم وباقٍ،

فليس المقصود أنَّ الشيخ قد أزاله في عصره مطلقًا، بل ولا قضى على أكثره، ولا أنَّ صاحب الحق سيلغي أثر الافتراق بسعة عقله وعلمه، فليس هذا من سعة العقل والعلم في شيء.

وهذا يكشف غلط طرفي النقيض كليهما:

فمن يتمسك ببيان الحق فقط يلحظ بقاء الخلاف واستحالته، ولا يلحظ العوامل المؤثرة في تخفيفه، وتوسيع الحق، فيرى أنَّه يجب عدم الالتفات إلى هذه العوامل بسبب ما يلاحظه من بقاء الخلاف.

ومن يتمسك بالمعاني الكلية الأخرى يرى ضرورة إزالة الخلاف، ويستخف بمن يعتني به، ويتعامى عن حقيقة بقاء الخلاف وآثاره والفساد المترتب عليه.

الثاني: أنَّ هذا لا يعني التفريط في بيان الحق ولوازمه وتطبيق أحكامه، فلا يتوهم أنَّ ما سبق يعارض أنَّ الشيخ قد ردَّ عليهم، وأكثر الكتابة فيهم، وشدد القول في مواضع، وتكلَّم في أحكام أهل البدع، وبيَّن ما يجب في منع قولهم، وإقامة الأحكام عليهم ..

فكل هذا لا ينافي ما سبق، فهو وسطٌ بين طرفين، لا يقول بإلغاء المعاني المتعلقة بجمع الكلمة، وحفظ حقوق المسلمين، والتعاون معهم في الخير، وغيرها بسبب التمسك ببيان الحق وآثاره، ولا يلغي أهمية بيان الحق أو يزهد فيه بسبب هذه المعاني،

بل ثم مساحة واسعة جدًا بينهما، يمكن معها بيان الحق، وتخفيف الشر، وتعظيم المصلحة، وهو ما يختلف باختلاف الزمان والمكان والحال، لكنه يتطلب سعة في العلم والعقل، وهو ما تحقَّق في مثل منهج الشيخ رحمه الله، ومرَّ بعض المعالم الكاشفة عنه.
ذكرتُ في منشورين سابقين أنَّ المسلك المعتدل الذي يغذِّيه سعة العلم والعقل يقف وسطًا بين طرفي نقيض: يلحظ طرفٌ أهمية بيان ما يراه حقًّا ولا يبالي بما عداه، ويلحظ طرفٌ المعاني الاخرى فيعرض عن الحق.

هنا مادةٌ تطبيقيةٌ على هذا التباين في قضية كثر الجدل عليها في هذه الأيام وهي الموقف من بعض علماء الإسلام كالنووي وابن حجر وغيرهم، رحمة الله عليهم أجمعين.

تفصيل ذلك في هذه المقالة:
يتبنَّى عددٌ من الناس في عصرنا تكفير عددٍ كبيرٍ من العلماء كابن حجر والنووي وغيرهم، ويستطيلون على من ينكر عليهم ..

يجرئهم على ذلك دعوى اتباع السلف.

هنا إلزامٌ لهم بطرد هذا التكفير، نجري عليهم نفس القواعد والاستدلالات التي يجرونها على من ينكر عليهم، وبه يظهر فساد هذا المسلك وانحرافه.

في هذه المقالة تفصيلٌ لهذا الإلزام:
لقراءة مقالة: التسلسل في التكفير، من موقع الدرر السنيَّة

https://dorar.net/article/2103
استمعتُ لمقطعٍ يجيبُ فيه المتحدِّثُ عن إشكالية الإلزام التي ذكرتُها في مقالة التسلسل، بأنَّ هذا المسلك في التكفير يلزم منه تكفير جمهور علماء الأمَّة من بعد القرون المفضلة، وعامة المسلمين.

ذكر أشياء عدَّة في الجواب، زادتني قناعة بقوة الإلزام، وأنه لا فكاك عن ورطته، وقد أعود لاحقًا لجمع كافة ما يُذكَر من "تخلُّصاتٍ" من عقدة هذا الالزام.

لفت نظري أنَّ المتحدِّث ذكر أنَّ من كفَّر بالوصف وكفَّر بعض الأعيان تحت أي ضابطٍ فلا يقال عنه: إنَّه لم يكفِّر، بل هو مكفِّرٌ، والخلاف معه في الإطلاق والتعيين لا يخرجه عن كونه مُكفِّرًا، وبناءً عليه فلا يدخل في عبارة تكفير من لم يكفر.

حسنًا،

سنأخذ هذا الجواب عينةً أولية، فلن نتحدث عن إلزامه بشيء، وإنَّما نريد فهم حقيقة هذا القول نفسه، وتحقيق مناطه، فلا حاجة لنا معه إلى الإلزام.

معنى هذا الكلام:

أنَّ العالم وطالب العلم حتى يسلم من التكفير فلا بد أن يُكفِّر بالوصف من لا يقول بالتكفير بخلق القران، ثمَّ يُكفِّر أعيانًا من هؤلاء الذين لم يُكفِّروا بخلق القرآن.

فإن لم يفعل أو ظهر منه خلاف ذلك فهو كافرٌ بعينه!

لا بأس ..

سمِّ لي الأعيان الذين كفَّرهم ابنُ تيمية لأنهم لم يكفروا أحدًا قال بخلق القران!

من هم الذين كفَّرهم ابن القيم؟ ابن رجب؟ الذهبي؟ .. محمد بن عبد الوهاب؟ .. إلى أن تصل إلى عصرنا ..

وحتى لا يقال: إنَّ سكوتهم لا يعني أنهم لا يكفِّرون، لنسهِّلها عليه، فنقول:

سمِّ لنا إذن العلماء الناجين،
اذكر لنا أسماء العلماء الذين تحقَّق فيهم المعنى المذكور فكفَّروا بعض العلماء لأنَّهم يرون هذا العالم لم يكفِّر الأشعرية؟! أو لم يكفِّر من يقول بخلق القرآن؟!

لن تجد صعوبة في إدراك أن عامَّة العلماء ومن يتبعهم لم يتحقَّق فيهم هذا الشرط، بل كانوا على خلاف ذلك،

بل لا وجود عند أحدٍ من العلماء لهذا المعنى المذكور للتخلُّص: تكفير من لم يكفر بخلق القران، أو لم يكفر الأشاعرة، ثم تكفير أعيانٍ بسبب ذلك!

فمعنى هذا القول أنَّ هؤلاء الجمهرة في كل هذه القرون الذين لا يحصي عددهم إلا الله ليسوا مخطئين، أو ضالِّين، أو مبتدعين فحسب، بل كفارٌ بأعيانهم؟!!

أهذا جوابٌ يذكر للتخلُّص من ورطة الإلزام؟!!

وسواءً جزم الشخص بمثل هذا الجواب أو سوَّغه فالنتيجة واحدة، فلو ذكره قولًا له، أو جعله أمرًا سائغًا فلم يُنقِص شيئًا من شناعة هذه البشاعة.

مع التذكير أنَّنا لم نجرِ على هذا الجواب أي إلزامٍ، وإنَّما نريد فهم القول ومعرفة معناه كما هو.

فأمرٌ ينتج عنه مثل هذا المعنى في تكفير هذه الأمة المرحومة هل يشكُّ عاقلٌ بعد ذلك أنَّ هذا القول مما يصح نسبته إلى السلف؟!

وإذا نُسب إليهم مثل هذا المعنى الفاسد فهل يحسب أحدٌ أنَّ هذا مما يحمدون عليه؟!



مع ملاحظةٍ ختاميةٍ لأمرٍ ظريفٍ في هذا الجواب التخلُّصي الباهر، وهو: أنَّ مقدِّم هذا الجواب كان يرى أنَّ تكفير الوصف لا يصح أن يكتفى فيه بعددٍ قليلٍ, لأنَّ هذا في نظره من العيِّ في الكلام واللُّكنة، فإذا قلتَ هذا تكفير وصف فيجب أن يشمل عددًا كثيرًا من القائلين به.

لكنَّه هنا لحاجته إلى التخلُّص من ورطة هذا الإلزام ترك هذا التأصيل، واكتفى مع تكفير الوصف بوجود تكفيرٍ لبعض الأعيان تحت أي ضابطٍ!
بحمد الله تعالى،

صدرت طبعة جديدة من كتاب أسلمة العلمانية، بعناية دار آفاق المعرفة.

وهي الطبعة الثانية للكتاب، وستكون متوفرة بإذن الله في معرض الرياض للكتاب.

أسأل الله لها النفع والبركة والقبول.
في كتابه فطرية الإيمان، وجَّه جستون باريت عدة نصائح لمن أحبَّ أن يعتنق الإلحاد، ذكر منها: لا تنجب أطفالًا!

ذكر هذه الوصية استنادًا إلى دراساتٍ اجتماعيةٍ تقرر أنَّ من عوامل تقوية الإلحاد أو إضعافه: شبكة العلاقات الاجتماعية الحميمية وشبكة الاعتماد بين الناس، وأنَّ الناس الذين يهتمون جيدًا بالآخرين لا يمكنهم في كثيرٍ من الأحيان تلبية كامل احتياجات الآخرين، لأنَّها خارج قدرة البشر أو لعدم الإمكانات المتاحة، فيضطر حينها إلى تعويض ذلك بالممارسة الدينية.

هذا المعنى صحيح ظاهر، وهو في الحقيقة مدركٌ في واقع الناس لا يحتاج إلى دراساتٍ تثبته، فإنَّ في قلب كل أبٍ أو أمٍّ من الخوف على أولادهم، والقلق من مستقبلهم، والرجاء لهم، وترقب الخير، وحذر المصيبة، والأمل في زوال المكروه، ما يفيض عن قدرة الإمكانات المادية، وما لا طاقة لها باحتماله،

وهو ما يثير ضرورة اللجوء إلى الله، ويحفز التعلُّق به، ويكشف شدَّة الحاجة إليه، ويهيج معاني الضعف والفقر والانكسار بين يدي الله.

ولعلَّ هذا من المعاني المصلحية العظيمة التي من أجلها جاءت الشريعة بتفضيل النكاح والحث عليه، فإنَّ النكاح له مصالح عظيمة في إعفاف الزوجين، وتحصيل الذريَّة، والسكن والمودة، وحفظ المجتمع.

ومن المعاني العظيمة التي قد يغفل عنها: أنَّه من أسباب القرب من الله، والتعلق به، فهو يفتح سببًا عظيمًا من أسباب ذلك وهو الخشية على الأولاد، والخوف عليهم، ورجاء الخير لهم، مما يرتفع به المسلم مقاماتٍ في أعمال القلوب، والجوارح قد لا يصل إليها لولا هذا الدافع، ويفتح له من أبواب مناجاة الله، ولذَّة الالتجاء إليه ما لا يعرفه قبل ذلك.

ولهذا يقول المسلم بعد أن يبلغ أشدَّه متضرِّعًا إلى الله: (ربِّ أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمتَ عليَّ وعلى والديَّ وأن أعمل صالحًا ترضاه، وأصلح لي في ذريتي، إنِّي تبتُ إليك وإني من المسلمين).
لأبي العباس ابن تيمية رحمة الله عليه رسالةٌ نافعةٌ في المقارنة بين فعل الأوامر، وترك النواهي، قرَّر فيها الشيخ أنَّ فعل الأوامر أفضل وأعظم مصلحة من ترك النواهي، وأطال البحث في هذا كثيرًا، وساق في إثبات ذلك أكثر من عشرين وجهًا على صحة هذا المعنى، وأورد ما يمكن أن يعترض عليها من إشكالات وأجاب عنها.

(انظر: مجموع الفتاوى ٢٠/ ١٣٢- ١٥٩).

وهذا المعنى في الحقيقة ليس مجرَّد فائدةٍ علميةٍ محضة متعلقة بتفضيل حكمٍ شرعي على حكمٍ آخر، أو تفضيل طاعةٍ على طاعةٍ،

بل هو منهج إيمانيٌ، تربويٌ سلوكيٌ عظيم، فهو أشبه برؤيةٍ كليَّةٍ في منهج الحياة، فليس المقصود من مثل هذا التقرير التزهيد في ترك المحرمات أو الاستخفاف بالمناهي، معاذ الله، وإنما هو تنبيهٌ على كيفية الموازنة بينهما، ومسلك التعامل عند التضايق وعدم الإمكان وصعوبة الجمع، أو وجود العوائق والصوارف والموانع.

مع ملاحظة أنَّ الأوامر والنواهي بينهما تلازم، فأحدهما يؤثر في الآخر، غير أنَّ تأثير الأوامر في ترك النواهي أقوى وأظهر من العكس.

ويمكن أن نذكر من تطبيقات هذا المنهج العظيم:

١-الحرص على نشر العلم، وشرح السنَّة، وبيان الحق أكثر من الرد على الشبهات المثارة عليها.

٢-ملاحظة ما عند الناس من طاعاتٍ لتكثيرها، وحثهم على غيرها، أكثر من ملاحظة ما عندهم من المنكرات.

٣-الحرص على تعليم الصغار الأخلاق الحسنة والآداب الفاضلة قبل تحذيرهم مما يبدر من أخطاء وتجاوزات في ذلك.

٤-الحرص على العبادات المشروعة من صيامٍ وقيامٍ وذكرٍ وقراءةٍ أكثر من النهي عن العبادات المبتدعة.

٥-الحرص على تحقيق اللقاءات النافعة والصالحة من اجتماع على علم، أو زيارة مريض، أو صلة رحم، أو إعانة محتاج أكثر من ملاحظة ما يقع فيها من مخالفات وأخطاء.

٦-والعناية بإشغال المجالس بالجانب النافع المفيد، والقصص الحسنة، والحديث المباح أكثر من نهيهم عن ما يضر.

ويمكن لنا أن نتوسَّع أكثر في التمثيل على هذه القاعدة في جوانب حياتية مختلفة، وهي تصلح مادة تطبيقية يلاحظها كل واحد في المجال الذي يعمل به أو يهتم له،

لا يراد بها التقليل أو الاستهانة من ترك المحرمات، ولا التجرئة على التهاون بها، فهذا مسلكٌ منحرفٌ مرذولٌ، وأما هذا المنهج فيسعى لتوظيف مثل هذه القاعدة النافعة في سبيل تكثير الحسنات، وتقليل السيئات، وتعظيم الخير، وتخفيف الشر، والاجتهاد في سبيل ذلك قدر ما يمكن.
يعظِّمون النووي أكثر من تعظيمهم لله!
يعظِّمون صفات السيوطي أكثر من تعظيم صفات الله!
يرون أنَّ حق المخلوقين أعظم من حق الله، والغلط في صفاتهم أشد من الغلط في صفات الله!

هي عباراتٌ متداولةٌ توجَّه إلى من يقول بإعذار العلماء فيما وقعوا فيه من تأويلٍ لبعض الصفات، بأنَّك إذا لم تحكم عليه بالكفر عينًا، وذببتَ عن عرضه، وبيَّنت عذره وتأوُّله، أو رددتَ على من يكفرهم جميعًا= بأنَّك تعظِّم هذا الشخص وصفاته أكثر من تعظيمك لله وصفاته!

حقيقة هذه العبارة أو لازمها تكفيرٌ لكل العلماء وطلبة العلم وعموم الناس، لأنَّ من يعظِّم مخلوقًا أكثر من الله فليس بمسلم ولا هو من أهل الإيمان، بل ولا يتصور في مثل هذا وجود عذرٍ أو تأول يسوغ له أن يعظم مخلوقًا فوق تعظيمه لله.

وهذا يشمل كل من تأوَّل لهؤلاء العلماء، وهو يشمل كافة أهل العلم من قرون، لن أسمي فأقول: ابن تيمية والذهبي وعلماء الدعوة، لأنَّهم سيكونون قطرة في بحر!

فحقيقة هذه العبارات أو لازمها تكفير جمهور هذه الأمة، وحطٌّ عظيمٌ وطعنٌ شديدٌ فيهم أنهم يعظمون المخلوق أكثر من تعظيمهم لله!

وهذا يعني أنَّ القول بتكفير مثل النووي والسيوطي أصبح من المعلوم من الدين بالضرورة، بل أشد من ذلك بكثير، بحيث إن من يخالف في ذلك ويدفع عنهم التكفير فهو معظم للمخلوق أكثر من تعظيمه للخالق، وهذا من أشد أنواع الكفر التي لا يتصور فيها عذر.

وهذا يعني أيضًا: أنَّ الانحراف لم يتوقف عند تسليط الجهال على تكفير علماء المسلمين الذي هو من أعظم المنكرات كما قال ابن تيمية، وإنَّما تجاوز ذلك فتسلَّطوا أيضًا على من لم يكفرهم لما عندهم من تأوَّل، وأعذر، وأحسن القول بناءً على أصول شرعية معتبرة.

أعرف أنَّ أكثر من يطلق هذه العبارة لا يدري عنها، ولا يفهم حقيقة قوله ولازمه، وليس مقصودي هنا نسبتهم إلى تكفير أحد.

وإنما المقصود أنَّ هذا يثير التذكير بثلاثة أمور مهمة:

الأمر الأول: جناية من مرَّر مثل هذه الحجج في الفضاء العام حتى تلقَّاها كثيرٌ من الناس بلا وعي، فحسبها حجة صحيحة، ولم يتفطن إلى ما فيها من المعنى القبيح الخطر، وهذا حقيقة من الغش في الدين، حيث تتسبب في اعتناق بعض الناس لمثل هذه المقولات الفاسدة إحسانًا منهم بحال من قالها.

ويزيد الجناية ويعظم التفريط في الأمانة: أنَّ من يمرر هذه العبارات قد يتوقف عن طردها، وينتبه لبعض لوازمها، وهو ما لا يدركه من يقلده في ترديد هذه العبارات فقد يطردها أو يأخذها كاملة بلوازمها ولا يبالي!

الأمر الثاني: بيان حال من يردد مثل هذه العبارات، وأنَّهم يخوضون في قضايا كبار، ويترتب عليها أمور عظيمة، وفيها ملفات معقدة، وهم فاقدون لأوليات البحث ومقدمات التأهيل للكلام في هذه الأمور، وكان الواجب أن يعظَّم في قلوبهم ما عظَّمته الشريعة من تحريم الكلام بغير علم، وخطورة الخوض في الأعراض، وأن يحثوا على طلب العلم، والتفرغ له، والانشغال بما ينفع.

ولو غفل الشخص عن ملاحظة مثل هذا فإنَّ هذه الأخطاء الفاضحة يجب أن تكون موقظة له لينتبه لمحل هذا الخلل العظيم.

وحتى تدرك القصور الشديد والضعف الفاضح في التأهيل، فقد كان يسعهم أن يقولوا: هذا ليس من تعظيم الله، أو لو عظمتم الله حق تعظيمه لكفرتم كما فعلنا، لكنهم لا يحسنون مثل هذا، فأصبحوا يعبرون بصيغة تكفيرية قاطعة: تعظمون صفات المخلوق أكثر من صفات الخالق!

الأمر الثالث: خطورة الخصومات، والانشغال بها، والدوران فيها، ولو كان الشخص يزعم أنه على الحق، ويدافع عن السنة، فأن يدور الشخص في الجدل، ويغرق في دوامة الردود المتقابلة، وتكون الغالبة عليه، والمسيطرة على اهتمامه، والموجهة لقراءاته وحججه، فإنَّه سيقع بسبب ذلك في مفاسد عظيمة في العلم والعمل والخلق والسلوك،

وهذا داخل في معنى نهي فقهاء السلف عن الخصومات، والواقع شاهد على ظهور هذه المفاسد العظيمة، وعمق فقه من تفطن لمكمن الخلل.
2024/10/07 13:33:24
Back to Top
HTML Embed Code: