Telegram Group Search
لا شكّ أنّ هناك من لا يتمكّن من التخلّص من اهتماماته التافهة حتى في خضمّ هذه الأوضاع المؤسفة التي يمرّ فيها عالمنا العربي، حيث تقام المجازر للمسلمين في فلسطين والسودان وسوريا وغيرها كل يوم، لكن يا أخي ويا أختي على الأقل تذمّموا قليلا ولا تبثّوا تفاهاتكم التي تزاحم أخبار الضحايا وصور الأطفال الممزّقة أجسادهم!

إنْ لم تكن هذه الأحداث بمنزلة صحوة لكثير منّا لنتخلّص ممّا تبقّى لدينا من اهتمامات تافهة وإضاعة للأعمار وتقصير في الواجبات الشرعية فمتى نصحو؟!

وإني والله لأخاطب نفسي قبل كل أحد، وأرجو أن تؤخذ هذه الرسالة على محمل الجدّ، من قلب رجل مقصّر في حقّ ربّه وحقّ أمّته وحقّ نفسه، ويرجو لقلبه أن يفيق كما يرجو لقلوب المسلمين.
هل تذكرون حين كنا نرى أطفال حلب والغوطة وإدلب قبل سنوات لمدد متطاولة يذبحون ويدفنون تحت الأنقاض ونحن نشعر بالعجز الشديد ونعاهد الله على أن نغير أنفسنا ونصحو من غفلاتنا.. ماذا ترك ذلك فينا الآن؟

والآن، ماذا ستترك هذه المشاهد التي تراها من القطاع فيك؟ هل ستقتصر على الألم والحزن ولعن العجز؟ أم ستفكر في شيء تنفع به أمتك وتساهم في بنائها فيما تحسن؟

هل ستظل منكبا على ما كنت عليه من تمركز حول إشباع الشهوات وأوهام تحقيق الذات بالانعزال عن الواقع؟ أم ستكسر قوقعتك الذاتية وتمضي لتصلح نفسك وتصلح مجتمعك بما تستطيع؟

هذه هي الأسئلة الحارّة التي ينبغي للشباب التفكير فيها بجدية.. وإلا فستكون نكباتنا المتكررة مجرد مواسم للألم والحزن والبكاء، تعقبها مواسم الغفلة والشرود من جديد!
"ما الظلم بالباقي ولا ربّي برحمته ضنين"
حين أقرأ في كتب التراث المشحونة بأقوال الفلاسفة الإغريق وغيرهم، وبالأحاديث الموضوعة والواهية والحكم التي لا يُعرف لها صاحب؛ أشعر بانقباض رغم اهتمامي بتلك الكتب، ولا يذهب ذلك الانقباض إلا بمطالعة كتب السنن الثابتة، ثم الآثار المسندة عن الصحابة والتابعين وتابعيهم من الأئمة الأعلام، وحينئذ يدرك المرء كم ظلمتْ هذه الأمة تراثها الأصيل حين أهملته وولعت بتراث الأمم الأخرى الخالي من أنوار النبوة.

أما القرآن، فذلك شأوٌ لا يبلغه الآدميون!
ستظلّ مخالفة هوى النفس من أرحب السعادات الإنسانية التي يمكن للإنسان أن يعيشها إلى أن يصل الجنّة بإذن ربّه وعفوه ورضاه. ورغم ما يبدو من مشقّة وتعب وألم في مخالفة ذلك الهوى الشديد، تظلّ لحظات الانتصار عليه، والشعور بالعقل المستنير بأنوار الوحي وهو يقود الإنسان إلى خيري الدنيا والآخرة.. تظلّ هي الراسخة في القلب، الجالبة لسحائب الرضى والهناء الحقيقي.
إذا كنت من الذين ما زالوا متمسّكين بهويّتهم الوطنية القُطرية التي تأسست في عهد الاستعمار الأجنبي لبلادنا، ومن الذين يرون في ذلك خيرًا للأمّة؛ فهذا المقال موجّه إليك، وهو دعوة إلى تحرّرك منها..

هذا المقال رسالة جادّة، ودعوة مفتوحة، وهو لا يستقلّ عن أيّ من الأحداث الكبرى التي تعيشها أمّتنا اليوم، بل يرى في "الهويات الوطنية" عائقًا كبيرا فاقمَ الكثير منها وتسبب في ضبابية رؤيتنا لطريق تحرّرنا ونهوضنا.

أرجو لكم قراءة نافعة، ولا تنسوني من جميل دعائكم..

لقراءة المقال: https://bit.ly/3Yqg69r
ثمة أمر يجب التنبيه عليه لوقوع المغالطة فيه عند كثير من الناس، وهو جعلهم “الوطن” بمنزلة “القُطر السياسي”، وهو خطأ كبير؛ فالانتماء الجغرافي أو العرقي أمرٌ فطري تعارَف عليه البشر منذ آلاف السنين، ولكنّه ليس “هوية” تُشكّل تعريفنا الأول بذواتنا وتُحدّد ولاءاتنا ومواقفنا الأخلاقية. كما أنّ الانتماء الجغرافي يكون للمدينة أو القرية أو المنطقة التي ولد وعاش فيها الإنسان، لكنّه لا يكون للقُطر السياسي، ومتى تحوّل الانتماء إلى القُطر السياسي أصبح أيديولوجية غربية وافدة، لها مضارّ عانينا منها كثيرًا على مستوى الأمة ولم نكسب منها شيئا، فضلا عن عدم فطريّته ولا اتّساقه المنطقي، وإمكان التلاعب من خلاله بعقول الملايين وقلوبهم، وارتداء “الدولة” رداء “الوطن”، وتحويلها إلى “وثن” يُصرف الولاء إليه، وتُقطف المُهج من أجله، ويكاد يُعبد من دون الله!
من مقالي الجديد "لماذا يجب أن نتخلّى عن هويّاتنا الوطنية؟"

لقراءة المقال: https://bit.ly/3Yqg69r
قدوتي بعد الأنبياء شيخان؛ صدّيقٌ أقام الصدقَ في أموره كلّها، وفاروقٌ أقام الحقّ في أموره كلّها.
فأمّا الأول، فقد كان أحبّ الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو عتيق الله من النار، وقد أنابه رسول الله صلى الله عليه وسلّم عنه ليرشد الناس بعده ويؤمّهم،
وأمّا الآخر، فقد أعزّ الله به الإسلام، وكان أحوذيّا نسيجَ وحده، قد أعدّ للأمور أقرانها، وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنّ غضبه عزّ ورضاه عدل.
قال عليه الصلاة والسلام: "إنْ يُطع الناسُ أبا بكر وعُمر فقد أَرشَدوا".
يخطر لي أحيانا أن أمتنا في باب التربية تعاني من مشكلة التحيّز لجوانب معيّنة والإعلاء من شأنها، كأن يقول القائل: إن أساس التربية هو التنشئة على الجرأة والعزة والقوة، أو يقول آخر: تبدأ التربية من القراءة.

ولا شكّ أنّها جوانب مهمّة جدّا، لكنها كثيرا ما تتحوّل إلى "قوالب" لشخصيات تُناهض غايات التربية الإسلامية؛ فقد تصبح القوة والعزّة كبرياءً وتسلّطًا وقسوةً على المؤمنين، أو انبهارًا وإعلاءً لدور الجانب المادي في نهوض الأمة من كبوتها مع الغفلة عن الجوانب الأخرى.

وقد ينشأ الطفل نهمًا على قراءة كلّ شيء، حائزًا على مديح أهله وذويه ومعلّميه، ثم نكتشف لاحقًا أننا كنّا نربي مشروع ملحد كبير أو روائي إباحي أو كاتب "ديني" وصولي؛ لأنّ القراءة كانت لذاتها، ولم تكن متوجّهة ببُعد رسالي أخلاقي.

ما لم يكن "إصلاح القلب" أساس كل عملية تربية، وربطه بالله أولا وآخرا وبكل ما ينبثق عن هذه الحقيقة من حقائق الإيمان والإسلام، وما يبنى عليها من قيم وآداب وأخلاق.. فإنّ كل تربية تركّز على جانب من الجوانب هي عرضة لأخذنا بعيدًا عمّا نرجوه من الأجيال الصغيرة، التي نفرح كثيرا ونحن نراها تنشأ وتتشكّل أمام أحلامنا المتعطّشة لشيءٍ من المجد والعزّة والنهوض.
يحضرني موقف كثير من المنظّرين العرب، بل بعض “الإسلاميين” مع الأسف، الذين يوجّهون نقدًا للمشروع الصهيوني متعلّقًا بالهوية، يقولون: إنّ هؤلاء لا يكاد يجمعهم شيء، فقد جاؤوا من دول وشعوب مختلفة، منهم الأشكنازي ومنهم الشرقي ومنهم الحبشي ومنهم البريطاني ومنهم الأمريكي إلخ على سبيل الذمّ.. مع أنّ ذلك الأخ الداعية سيتحدّث في مجلس آخر مشيدًا بالدولة النبوية التي ضمّت أبا بكر العربي وسلمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال الحبشي وصَهَرتهم في هوية واحدة وولاء واحد!

كتبت هذا الكلام في مقالي الأخير الذي نشرته قبل أيام هنا: "لماذا يجب أن نتخلى عن هوياتنا الوطنية؟"

وأتساءل الآن: هل استلهمنا السيرة النبوية حقا في فهمنا للواقع؟ أم تجاهلنا الكثير من حقائقها الدامغة بخصوص الهوية وغيرها من القضايا الكبرى، بل تمادينا وأسقطنا مفاهيمنا المعاصرة عليها وقرأناها بأنظار كليلة تستمد من مفاهيم العصر أكثر مما تستمد من الهدي النبوي! حتى وجدنا اليوم من يستشهد لدولة المواطنة الغربية بدولة المدينة، أو من يستشهد بالأحاديث المتعلقة بأقاليم الإسلام وفضائلها على شرعية الهويات القطرية التي فرضها الاستعمار!
من باب التعريف بحقيقة العلم ما رواه أبو محمّد الدارمي (181-255 هـ) "عن موسى بن يسار عمّه قال: بلغني أنّ سلمان رضي الله عنه كتب إلى أبي الدرداء رضي الله عنه:

"إنّ العلم كالينابيع يغشاهُنّ الناس، فيختلجُه هذا وهذا، فينفعُ اللهُ به غيرَ واحد، وإنّ حكمةً لا يُتكلم بها كجسدٍ لا روح فيه، وإنّ علمًا لا يَخرج ككنزٍ لا يُنفَق منه، وإنّما مَثَلُ العالِم كمَثَل رجلٍ حمل سراجًا في طريق مظلم، يستضيء به من مَرَّ به، وكلٌّ يدعو له بالخير" (مسند الدارمي).

فكان التعريف بالعلم هنا من جهة نفعه وفائدته ودوره الحيويّ في الحياة الإنسانية. يدلّك هذا الأثرُ على ما ينبغي معرفته حقّا في سياق العلم كي لا تضلّ عن حقيقته، فإذا كنتَ تُراكم العلمَ من غير العمل به أو نشره والإضاءة به، ليكون بمنزلة "العلامات" التي تُرشد في الطريق؛ فأنت لم تفقه حقيقة العلم!

(من كتابي "منطق القرآن: إصلاح العقل على طريق الحق والصدق والعدل")
أهلنا في المملكة، يمكنكم الحصول على كتبي من متجر صوان
هناك تصوّر ساذج وسيّء لدى كثيرين ممّن يحملون لواء "تصحيح العقيدة" وشعارات "التوحيد أولا" حول مفهوم الإيمان وفاعليّته في الحياة، بل لدى بعضهم ارتباطات مختلّة بحكومات معادية للدين أساسا، هذا كلّه معروف ومفهوم.. ولكنّ رفض الطرح العقائدي تمامًا تحت حجّة "مش وقته" أو أنّ هناك تحدّيات كبرى أولى بالاهتمام؛ يمثّل دورانًا حول معالجة "الأعراض" وتجاهلا للعوامل والدوافع والمسببات.

كثيرا ما يرفض بعض الإخوة المعالجات المفاهيمية الجذرية لقضايانا الكبرى، مع أنّ هذه المعالجات وفي ظلّ الواقع الراهن الضاغط نحو الانشغال بردود الأفعال هي من أولى ما ينبغي الانشغال به؛ لأنّ المشكلة تكمن في "نظام التشغيل" أكثر مما تبدو في شكل الانفعال اللحظي بالوقائع.

نظام التشغيل الذي ينطلق من منطلقات فاسدة وغايات فاسدة لن يُنتج لنا حلولًا نافعة حتى لو كنا واقعيين إلى أبعد مدى. والذين غيّروا في هذا العالم هم الذين كانوا يمتلكون منذ البداية رؤية ومنطلقات مختلفة عن الواقع السائد، هم الذين قال لهم أقوامهم: {أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا}.

و"الآلهة" التي يتمسّك بها النّاس اليوم كثوابت ومنطلقات كثيرة جدا، فما أحوجنا إلى إعادة التفكير فيها قبل التفكير في تغيير الواقع إلى الأفضل!
إخوتي في الجزائر..

سألني كثير من الإخوة عن كتبي المتوفرة في معرض الجزائر الدولي للكتاب العربي، وكنت أجبت بعضهم - مخطئا - بعدم توفرها، لكني تذكرت أن كتابي الأخير "لماذا هجرنا القرآن في بناء أصول الإيمان" متوفر في المعرض في جناح مكتبة الأسرة العربية، رقم الجناح: ( B41 AHAGGAR ).

يعالج هذا الكتاب إشكالية خطيرة في خطابنا العقائدي وهي الإعراض عن الانطلاق من القرآن في بناء أصول الإيمان، فيكشف عن الاعوجاج الذي حدث حين هجرْنا كتاب الله في هذا الباب، ويقوّم ذلك الاعوجاج بالنقد والنقاش والأدلّة، ويقدّم الدلائل القرآنية الكثيفة التي تُبرهن بما يقطع كلّ شكّ على مركزية القرآن في بناء أصول الإيمان، مفنّدًا بذلك المقولة التي تزعم أنّه لا يمكننا مخاطبة غير المؤمنين بالقرآن لأنّهم لا يؤمنون بصدقه، أو التي تزعم بأنّنا يجب أن نبدأ بإثبات وجود الله وصفاته الثبوتية وصحّة النبوة بالعقل المستقلّ قبل الاستناد إلى القرآن كي لا نقع في الاستدلال الدائري. كما يعرض الجهود التاريخية المباركة التي انطلقتْ من القرآن وأسّستْ هذا الباب عليه في القديم والحديث، فأضاءت لنا طريق العودة إليه لبناء أصول الإيمان.

أرجو لكم قراءة نافعة..
أحد أوجه الإبهار اللغوي في القرآن، والذي أجده على المستوى الشخصي على الأقل، هو الانطلاق اللغوي الذي يتعالق مع كل العصور دون أن ينطوي شيء من دلالاته في حقبة تاريخية ما أو سياق اجتماعي ما، بل تظل للنصّ القرآني طلاقته التي تنشئ الرابط الواضح مع كل العصور، حتى حين تعالج الآية حادثة اجتماعية تاريخية في بلدة صغيرة قبل 14 قرنا كما في آية الحجاب جاء النص طليقا هكذا {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما}، لم يحدد يُعرفن ممن؟ لم يذكر الإماء كما ذكرت أسباب النزول؛ لأنها ظرف اجتماعي متغير، بينما ظلت الآية طليقة على المستوى اللغوي، ترتبط دلالتها مع كل عصر، متجاوزة للتفاصيل الحابسة.
لست من المعجبين بفكر الشيخ الألباني رحمه الله وأجزل له العطاء، بل لديّ نفورٌ شديد من بعض فتاويه وأطروحاته، لكنّ فكرة الطعن فيه وإهدار قيمته تمامًا لأنّه "لا شيوخ له"، وربط الأخطاء التي جاء بها في المنهج والفتاوى كلها بهذا الأمر فكرة غير صائبة بنظري. لدينا جيش من المشايخ المعاصرين ممن كان لهم شيوخ تقليديّون كبار وقد جاؤوا بطوامّ تفوق ما جاء به الألباني، فماذا نفعهم أخذهم عن المشايخ؟

لدينا مفتٍ سابق قديم لمصر صرف كثيرا من آيات القرآن عن حقيقتها وأوّلها تأويلا يناسب التطوّر العلمي الحديث، فضلا عن علاقات وآراء وأفكار طعن فيه من أجلها بعض المتشرّعة، فهل نلغي كلّ علمه ونهدره تمامًا وننكر كل فضيلة له؟

ولدينا طوام من بعض مَن تلقّوا العلم الشرعي "على أصوله" على الشيوخ، فلم يعصمهم التلقّي عن الشيوخ عن الخطأ والزلل والانحراف، فليست الاستقامة الفكرية أو العلمية أو الأخلاقية منوطة بهذا، بل هي منحة من الله يكرم بها عباده المصطفين الذين يطلبون هدايته في كل حين، فهو وحده سبحانه الهادي إلى سواء السبيل، وهو وحده الذي يرشدنا إلى الصواب.

لا أقول هذا لأقلل من قيمة التلقّي عن الشيوخ معاذ الله، بل من وجد شيخا يتصف بالعلم والخلق واستقامة السيرة فلينكب على النهل من علمه وأخلاقه، وليعلم أنه لن يجد في الكتب والصوتيات والمقاطع المرئية ما يجده في إرشاد وتعليم من شيخ فاضل ممتلئ بالعلم والأخلاق.

ونحن في هذا العصر نسدّد ونقارب، فنبذل غاية الوسع في تلقّي العلم، فمن العلم ما يجري في قلبك وعقلك في خلواتك التي تناجي فيها الربّ سبحانه وتستعينه وتستغفره وتستهديه. ومن العلم مجالسة الشيوخ والعلماء وسؤالهم والأخذ عنهم وتدوين ملاحظاتهم وتصويباتهم. ومن العلم ما يتفتّح في ذهنك وقلبك وأنت تقرأ تفسير كتاب الله وشروح السنن. ومن العلم ما تشاهده من دروس وفّرت لنا الوسائل الحديثة نقلها بأحسن صورة. ومن العلم ما يحصل من مراسلات بين طلبة العلم والعلماء في كلّ فنّ.. إلى غير ذلك من الوسائل.

فهذه كلها وسائل تتفاضل فيما بينها، ويختلف أثرها من شخص إلى آخر، ومن عصر إلى آخر، ومن مكان إلى آخر. لكنّ اللبيب من لا تلهيه الوسيلة عن نشدان الحقيقة، ولا تشغله تفاصيل الدروب عن طلب الغايات. والعبرة في النهاية فيما ينتج الإنسان من علم، فيقوّمه أهل العلم بما لديهم من علوم ودلائل، لا بما لديهم من ألقاب ومكانة.

وهذا الإمام أحمد بن نصرٍ الداودي المسيلي المالكي (ت 402 هـ) كان ممّن عُرف أنّه لا شيوخ له، وقد أنكر على علماء القيروان عدم خروجهم منها حين سيطر عليها العبيديّون الفاطميّون، لكنّ بعضهم أجابه "اسكت! لا شيخ لك". قال القاضي عياض مبيّنا ذلك: "أي لأنّ درسه كان وحدَه، ولم يتفقّه في أكثر علمه على إمام مشهور، وإنّما وصل إلى ما وصل بإدراكه، ويشيرون أنّه لو كان له شيخ يفقّهه حقيقة الفقه لعلمَ أنّ بقاءهم مع من هناك من عامّة المسلمين تثبيت لهم على الإسلام، وبقيّة صالحة للإيمان، وأنّه لو خرج العلماء عن إفريقية لتشرَّق [أي صار على مذهب العبيديين الذين جاؤوا من المشرق] مَن بقي فيها من العامّة الألف والآلاف، فرجّحوا خير الشرّين".

والإمام الداودي من خير من يُذكّرنا بالشيخ الألباني، سواء لقلّة شيوخهما (كلاهما تلقّى عن عدد محدود جدّا من المشايخ وعُدّ ممن لا شيخ له)، أو بسبب تشابه فتوى الداودي (مع الفارق) بفتوى الشيخ الألباني حين سئل عن الهجرة من فلسطين، فقد استدلّ بهجرة النبيّ صلى الله عليه وسلّم من مكّة وهي أفضل من بيت المقدس على حدّ تعبيره، وإن كان قد نفى ذلك لاحقًا، لكنّ كلامه حول الأمر وإثارته كان إشكاليّا جدّا وأنكر عليه أهل العلم ولم يوافقوه عليه.

لكن هل أدّى موقف العلماء إلى إسقاط الداودي والإضراب عن علمه ومصنّفاته؟

التاريخ يخبرنا بقصّة أخرى، فالداودي الذي كان درسه وحده ولم يتفقّه في أكثر علمه على إمام مشهور ووصل إلى ما وصل بإدراكه – كما يخبرنا القاضي عياض – ترك من العلم ما انشغل به العلماء المحقّقون. وقد أثنى عليه غير واحد من أهل العلم منهم القاضي عياض نفسه الذي قال عنه: "من أئمة المالكية بالمغرب، والمتّسعين في العلم، المجيدين للتأليف... كان فقيهًا فاضلًا عالمًا متفنّنًا مؤلّفًا مجيدًا، له حظّ من اللسان والحديث والنَّظَر".

وقال عنه الإمام السهيلي صاحب "الروض الأُنُف": "غير أنّ الداودي من أهل الثقة والعلم".

وقد ذكره في سياق المدح والاعتراف بإمامته قوم من العلماء منهم الإمام القرطبي صاحب التفسير، والإمام الشاطبي صاحب الموافقات، والإمام الذهبي، والإمام ابن فرحون والإمام زين الدين العراقي وغيرهم.

فانتفعوا يا معشر طلبة العلم بما أفاد به الألباني عالَم الحديث والتحقيق، واضربوا صفحا عن أخطائه وزلاته، وراجعوا نقّاده المجيدين فيما قدّم من علوم، فأنتم على ربوة عالية تشرفون منها على الصواب والخطأ، فتتعلّمون من تجارب السابقين، وتضيفون ما ينفع هذه الأمة إن شاء الله.
قل لي يا أخي ما نفع علمك إذا كنت تفخر بطاغيةٍ عدوٍّ للمسلمين أو تعترف بشرعيّته الساقطة أو لا تبالي بمدحه؟!

العلم قبل كل شيء مواقف أخلاقية، فإذا كنت لا أستسيغ أخذ العلم عن رجل ممتلئ بالعلم النظريّ ولكنّه قليل المروءة فاحش الخلق بذيء اللسان، فلا آخذه أيضًا عن موالٍ للطغاة المجرمين، مزيّنٍ لهم في عيون النّاس ولو بشطر كلمة.

من أخطر ما تمرّ به الأمة اليوم أنّ أوضاعها السياسية – الناظمة لأوضاعها الأخلاقية والتشريعية – ليست بيدها، ومن أوجب الواجبات على العلماء؛ أولي الأمر الذين يُرتجى منهم قيادة الأمّة إلى برّ الأمان، أن يساهموا في تغيير هذه الأوضاع لتكون في يد الصالحين من أمّة محمّدٍ صلّى الله عليه وسلّم، كي يستضيء الناس بأنوار العلم بعد إزالة أثقال الظلمة التي تنخر عقولهم وقلوبهم في النظام التعليمي والإعلامي والتشريعي والاقتصادي وغيرها، وكلّها بيد الدولة.

فكيف إذا كان العالم أحد أدوات السلطة الفاسدة المفسدة أو أحد المصفّقين لها أو المزيّنين لها في عقول النّاس؟!
من مظاهر ازدواجية معاييرنا أننا نبذل كل جهد في محاولة نفي وجود شعب يهودي، ونردد السرديات اليسارية الغربية حول اختراع الصهيونية المسيحية لفكرة الدولة اليهودية وأنها لم تكن موجودة في الدين اليهودي (وهو طرح مغلوط)، ونستشهد بكتابات شلومو زاند حول "اختراع الشعب اليهودي" و"اختراع أرض إسرائيل"..

لكنْ حاولْ أن تخبر أحد هؤلاء بأنّ الشعب الفلسطيني شعب مخترع، وأنّ الدولة الفلسطينية لم تكن يومًا موجودة، وأنّ بريطانيا هي التي اخترعتها.. سيحدّثك الأخ عن "الأمر الواقع"، وسيجلب لك شواهد غير ذات صلة من النصوص الدينية ليثبت أصالة الهوية الفلسطينية!

إذا كانت القضية قضية "أمر واقع" فلا حاجة لكلّ هذا التنظير، وإذا تبنّينا نوعا من التنظير فعلينا الالتزام بمقتضياته سواء كان في صالحنا أو ليس في صالحنا، فالحقيقة دائما في صالحنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ}.
من المعضلات الكبيرة والأمراض الخطيرة التي تقف حائلًا أمام نهضة هذه الأمة كما يرى الشيخ الأستاذ عبد المجيد الشاذلي رحمه الله ما يسمّيه "الشخصية الإيحائية"، وألخّص لكم بشيء من التصرّف بالعبارة ما قاله في سلسلة صوتيّة قدّمها في تسعينيات القرن الماضي.

قال رحمه الله: إنّ خامة الأخلاقيات العامة في المجتمعات الإسلامية الحالية رديئة، يتأثر فيها الإنسان بالإيحاء، ويرى أنّ هذا يعود إلى عناصر عديدة تراكمت عبر مدة طويلة من الاغتراب واللامبالاة والخضوع للحكام وعدم الرغبة في التغيير والاستخفاف {فاستخفّ قومَه فأطاعوه إنّهم كانوا قومًا فاسقين} والإذلال طويل المدى والبُعد عن المشاركة والاستبداد بالحكم.

وقال إنّ الناس في مصر ظلّوا مدّة طويلة مثلا يصدّقون بأنّ الملك فاروق يأتي بأربعة ديوك رومي تُضغَط له حتى يأخذها في فنجان شوربة!

وقال إنّ هذا المثال وغيره سببه أنّ الشخصية "إيحائية"، تسير بروح القطيع وليس بروح الفريق، يفكّر المرء بعقل جمعي، ولذلك قال الله تعالى: {قلْ إنّما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مَثنى وفُرادى ثمّ تتفكّروا ما بصاحبكم مِن جِنّة إنْ هو إلّا نذير لكم بين يدَي عذابٍ شديد} كي يبعدهم عن عقلية القطيع والعقل الجمعي الذي يفكّر بالإيحاء أو يتأثر بالإيحاء دون أن يفكّر في صحّة التوجّه الذي هو ذاهبٌ إليه؛ هل هو صحيح أم خطأ؟ فهو يسير مع القطيع ملغيًا عقلَه، كالبغل يركب القضيب ويُسحب منه فيسير ولا يعرف إلى أين يذهب!

يستمر الشيخ موضّحا: قد يكون له عقل وذكاء، ولكن لا يقوم بتشغيله لأنّه تربّى على سياسة القطيع والإيحاء، يأتي إليه أحد ويهيّجه بكلمتين كأنْ يقول: يا جماعة.. إلخ.. فيسير خلفه. وإذا أراد أن يقول كلاما مخالفا لهذا التوجّه الذي سارت به الجماعة فإنّ الباقين سينزعجون منه، وهو لا يريد أن يُغضب أحدًا، فيسير معهم.
ويستطرد الشيخ في الحديث عن "الحرمان العاطفي" وعدم استقرار الأسرة وما ولّده من إغراق عاطفي ضمن الجماعات الإسلامية وخوف الفرد من الحرمان من هذا الإغراق فينصاع للتيّار.

لكنّ الفكرة أنني عدت إلى كلام الشيخ رحمه الله هذا حديثًا (وكنت قد سمعته منذ سنوات طويلة) حين شعرت في الآونة الأخيرة بشدّة "تأثير الإيحاء" هذا، ووجدت شواهد له عبر شهور طويلة في أكثر من موقف، وأيقنت بشدّة أنّ هذا المرض يحتاج إلى معالجة كثيفة وإلى توارد المعالجات من أكثر من جهة وبأكثر من أسلوب، فهو عائق كبير أمام أي تفكير حكيم وجاد، ووجدتُ من سماته التي تعيش بيننا أن النّاس تقتنع بما يروي رغباتها وعواطفها، فالأطروحة التي تقدّم لها مستقبلًا مزهرًا أو نصرًا أو بشريات قريبة غير واقعية تلقى رواجًا لما تصادفه من رغبات في نفوس الناس، لا بما تقدّمه من مستندات شرعية أو واقعية!

بل وجدت الكثير من الباحثين يتوجّهون إلى كتاب الله وإلى السنّة النبوية وإلى السيرة بروح "إيحائية" إن جاز التعبير، تبحث عمّا يُرضي العاطفة الجمعية أكثر مما تبحث عمّا يصلح عقول الناس وقلوبهم وسلوكهم.

والحديث يطول في هذا الباب، ولعلي أنشط قريبًا للكتابة فيه بتفصيل أكثر، والله الموفق.
من مظاهر فوضى الاستدلال بالقرآن الكريم والسنّة النبوية والسيرة: جَعلُ ما محلّه "المُلَح" و"اللطائف" موضع "المقاصد الكبرى"، فينهمك الباحث في إثبات نظرية معيّنة من خلال تتبّع إشارات ضعيفة غير قطعية ونسْجها لتتّفق مع مسار واحد ربّما يكون قد تحدّد لديه مسبقًا.

لا يمكن بناء نظريّة سياسية أو حركية متكاملة تتعلّق بالأمة كلها وبمصيرها بناء على تأويلات لم يقل بها أهل التفسير بل قالوا خلافها، أو افتراضات شديدة الظنّية تنحو نحو التفسير الرمزي أو الإشاري! ولا أقول إنّ التفسير المعاصر للقرآن محظور، أو إنّ ربطه بالأحداث المعاصرة ممنوع، ولكنّه يبقى شيئا من مجال "الظنّيات" و"الاجتهاديّات" وينبغي التعامل معه بحذر، وليس من قواطع القرآن ومقاصده الكبرى وتوجيهاته المحكمة.

في القرآن والسنّة والسيرة "دروس وعبر" نستفيدها بعد الأحكام الشرعية القطعية الثابتة فيها، لكن لا يمكن لأحد أن يفسّر أحداثًا معاصرة بناء على فهمه هو لبعض الآيات، فيربطها بها ربطًا محكمًا يدخله هو ومن صدّقه لاحقًا في متاعب نفسية وإشكاليات فكرية!

ومن الجيّد في هذا الباب قراءة المقدّمة التاسعة من مقدّمات كتاب "الموافقات" للإمام أبي إسحاق الشاطبي، حيث فرّق بين "صلب العلم" و"مُلَح العلم" و"ما ليس من صلبه ولا مُلَحِه". فأصل العلم هو ما كان قطعيّا أو راجعًا إلى أصلٍ قطعيّ، والمُلَح ما كان راجعًا إلى ظنّي أو إلى قطعي تخلّف عنه خاصّة من خواصّ ذَكرَها، وما ليس من الصلب ولا من المُلَح هو "ما لم يرجع إلى أصل قطعي ولا ظنّي، وإنّما شأنُه أن يَكرَّ على أصله أو على غيره بالإبطال". والتفاصيل عند الشاطبي.

ما يهمّني في هذا الباب التأكيد بأنّ حاجة الأمة اليوم هي ترسيخ القطعيات والثوابت، فهي التي يتناولها أهل الزيغ اليوم بالإنكار والتشكيك والشبهات، أما بناء المناهج الشرعية والحركية على المُلَح بل ما هو أدنى منها فمن شأنه هزّ ثقة الناس بالخطاب الشرعي المعاصر؛ إذ هو خطاب يُكثر من الدعاوى والوعود المبنية على توافقات مع النصوص يزعم أصحابها أنّها قطعية مع أنها بعيدة جدًّا عن الظنّ المحمود في الاجتهاد الشرعي، وكثير منها تخرّصات لا أصل لها.

وقد استمعت مؤخرًا إلى رجل يفسّر شطرًا من آية بتفسير غريب، فوجدته لا يوافق فيه أحدًا من أهل التفسير، وجميعهم على رأي واحدٍ خلافه، ولكنّه لا يذكر ذلك في محاضرته، بل يقدّم رأيه بكامل الثقة وكأنّه منطوق الآية!

وأخيرا، أنصح كل مستمع لأيٍّ من المعاصرين أن يراجع كل تفسير يصدر عنه لكتاب الله تعالى على ضوء ما قاله أبرز المفسّرين، وخصوصًا المتقدّمين، وألّا يأخذ كلامه ولا لغة جسده الواثقة ولا المناسبة الظاهرة التي تبدو "مقنعة" دليلا على صحّة كلامه.

لا تشرب كلامًا في دين الله وكتاب الله بغير تمحيص وتنقيب، فهذا من دروس القرآن القطعية الأَوْلى بالأخذ والاستمساك من جميع تلك التأويلات المعاصرة، والله أعلم.
2024/11/15 06:41:34
Back to Top
HTML Embed Code: