Telegram Group Search
قال اللهُ لنبيِّه: ﴿ولقد آتيناك سبعًا من المثاني والقرآن العظيم لا تمدّنّ عينيك إلىٰ ما متَّعْنا به أزواجًا منهم ولا تحزن عليهم واخفضْ جناحك للمؤمنين﴾ الآيات، فيها أعظمُ التّأديبِ، والموعظةِ، يُوجِّهُ ربُّ العِزّةِ نبيَّه أن لا ينصرفَ إلىٰ ما النّاسُ طالبوه مِن متاعِ الحياةِ الدُّنيا، ولا يكونَ بها مِن المتعلِّقين، وجماعُ ذٰلك في استكمالِ العبادةِ بأنواعِها، والاستعانةِ علىٰ ذٰلك، وبذٰلك ختَم اللهُ له: ﴿فسبِّحْ بحمد ربِّك وكن مِن السّاجدين واعبد ربَّك حتّىٰ يأتيك اليقين﴾، وفي ما بينهما مِن التّسليةِ له، والتّعويض، والوعد الحسَن، ما أنجزه ربُّنا.

وبيَّن له الموقفَ مِن الخلقِ إذْ يُسمِعهم الوحي، ويتلو عليهم ما أمره اللهُ بتبليغه مِن كلامِ اللهِ العزيز، وهم إمّا مستجيبٌ وإمّا معرضٌ منافرٌ.

فأمّا المُعرِضُ، فنهاهُ أن تذهب نفسُه عليهم حسَراتٍ، فإمّا هو مبلِّغٌ لا وكيل.

وأمّا المستجيبُ فأمره بالرِّفقِ معه، واللِّين، ليزدادَ إقبالُه، وتخالطَ بشاشةُ الإيمانِ قلبَه، فينجوَ، فإنّه لو كان جَوَّاظًا شديدًا، لفاتَه أن يمتثل في نفسِه ما يحملُه عليه القرآنُ مِن تمامِ الخُلُقِ، ولنفَر منه المنتفعون بما يتلو عليهم مِن آياتِ الله.

ويسبقُ إليك مِن ترتيبِ الآيةِ الثّانيةِ على الأولىٰ أنّ الأولىٰ علّةٌ، وذٰلك يعطيك أنّ حقَّ مَن أُوتِي القرآنَ أن يصونَه في نفسِه، ويعرفَ حقَّه في مَن معه، فيَحفَظَ لسانَه وقلبَه، ويتعهَّدَ خواطرَه وهواه، وأن يَقدَع تعلُّقَه بكلِّ ما يُفسِدُ عليه ما أُوتِيه مِن البيّناتِ، ويُضعِفُ دعوتَه، ويُذهِبُ هيبتَه وصِيانتَه، وأن لا يَسمَحَ بالدُّنيا، ولا يَفسَحَ لها مَجالًا، فهي تُذهِبُ عنه خيرَ ما آتاهُ اللهُ، وهي شرُّ البليّة.

وفيه العِزّةُ، أنّ الشّيءَ النّفيسَ الرّفيعَ المضنونَ به لا يَقبَلُ الشِّركةَ، ولا يُسامُ المُضاهاةَ، ولا يَلِيقُ به أن يُعطَىٰ إلّا أنفسَ الأوقات، وأكملَ الأحوال، وأتمَّ النّيّات، ولا أن يُباشَر إلّا بأقوى الأخذ، وأعظمِ الحِيلة.

صبيحة السّبت 9 جمادى الآخرة 1442.
في شطر سورة مريم الأوّل:

ذكَر اللهُ زمرةً مِن خيارِ عبادِه المصطَفَين، ففرَّق أحوالَهم، ونوَّع صفاتِهم، وحلَّىٰ كلًّا منهم بغيرِ حليةِ أخي، وذكَر منهم علىٰ وجهِ التّفصيلِ: زكريّاءَ، ويحيىٰ، وعيسىٰ، وإبراهيمَ، وموسىٰ، وإسماعيلَ، وإدريسَ، ثمّ عاد فأجملهم في «ذرّيّة آدم»، و«مَن حمل مع نوحٍ»، و«ذرّيّة إبراهيم، وإسرائيل»، وسائرهم، وجمَعهم في نعتٍ واحدٍ هو أنّه أَنعَم عليهم بالاصطفاءِ، وهداهم، وأنّهم جميعًا عابدون لله، يخشعون عند تلاوةِ آياتِه ...

فيعطيك هٰذا التّفرُّقُ والاجتماعُ معنًى جليلًا، هو أصلٌ في استقامةِ الحياةِ علىٰ مرادِ اللهِ مِن الخلقِ، يقومُ علىٰ مقدّمتين:

الأولى: اختلافُ الأحوالِ، والطّبائعِ، والصّفاتِ، والمواهبِ، والغرائزِ، والأذواقِ، والصُّوَر، والأشكال، والعوائد، في ما خلَق اللهُ سبحانه وذرَأ.

وهٰذا بيِّنٌ مِن اختلافِ ما قَصَّ اللهُ علينا مِن نبإِ عبادِه، في ما ذكَرْنا.

وقد نبَّه سبحانه علىٰ ذٰلك، وجعَله آيةً علىٰ وَحْدانيّته، كما قال: ﴿ومِن آياتِه خلقُ السّماواتِ والأرضِ واختلافُ ألسنتِكم وألوانِكم﴾، وقال ربُّنا يتعرَّف إلينا بذٰلك: ﴿ألم تَر أنّ الله أنزل مِن السّماء ماءً فأخرجْنا به ثمَراتٍ مختلفًا ألوانُها ومِن الجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وحُمْرٌ مختلفٌ ألوانُها وغرابيبُ سودٌ ومِن النّاسِ والدّوابِّ والأنعامِ مختلفٌ ألوانُه كذٰلك ...﴾، وقال: ﴿وهو الّذي أنزل مِن السّماء ماءً فأخرجْنا به نباتَ كلِّ شيءٍ فأخرجْنا منه خضرًا نخرج منه حبًّا متراكبًا ومِن النّخل مِن طلعِها قنوانٌ وجنّاتٍ مِن أعنابٍ والزّيتون والرّمّان مشتبهًا وغيرَ متشابِهٍ انظُروا إلىٰ ثَمَرِه إذا أثمر وينعِه إنّ في ذٰلكم لآياتٍ لقومٍ يؤمنون﴾، وقال: ﴿وفي الأرضِ قِطَعٌ متجاوراتٌ وجنّاتٌ مِن أعنابٍ وزرعٌ ونخيلٌ صنوانٌ وغيرُ صنوانٍ تُسقىٰ بماءٍ واحدٍ ونفضِّلُ بعضَها علىٰ بعضٍ في الأكل إنّ في ذٰلك لآياتٍ لقومٍ يعقلون﴾.

ومتى اجتمعتْ وجوهُ هٰذه الآياتِ الكريماتِ في القلبِ: رسَخ فيه أنّ الاختلافَ بين الخلائقِ مبدأٌ كونِيٌّ مستقرٌّ، لا يُناهَضُ، ولا يُعارَضُ، فيتنبَّهُ عليه الإنسانُ حيث مَرَّ به، فيتّسعُ له صدرًا، ويسكُنُ له نفسًا.

والأخرىٰ: أنّ كلَّ صاحبِ حالٍ يمكنُه أن ينتهيَ بها إلى اللهِ، وأنّ كلَّ عاملٍ ومحترفٍ له بحرفتِه وسيلةٌ يجدُ عند اللهِ ثوابَها، وشكرَها، وأنّ كلَّ ممكَّنٍ مِن بابٍ مِن أبوابِ الصّلاحِ قد جُعِل له أن يتَّلجَ منه إلىٰ حضرةِ مولاه، وأن يقفَ به علىٰ عَتباتِ جنابِه، ليكونَ مَحَلًّا لعنايتِه، ورعايتِه، ورضاه، وإكرامِه، وليس ذٰلك مقصورًا علىٰ صنفٍ بعينِه، ولا مخصوصًا به أهلُ حالٍ دونَ غيرِهم.

وهٰذا مأخوذٌ مِن موضعِ ما جمَع اللهُ فيه الأنبياءَ مِن إنعامٍ وثناءٍ، ويدُلُّ عليه مواضعُ مِن كتابِ اللهِ كثيرةٌ، ووجوهٌ مختلفةٌ، منها أنّ اللهَ سبحانه أَطلَق اسمَ العاملين إطلاقًا يتناولُ جميعَ أعمالِهم، ولم يفرِّقْ بينها تفريقًا يخرجُ بعضَها، كقولِه: ﴿فنعم أجرُ العاملين﴾، ﴿ادخلوا الجنّةَ بما كنتم تعملون﴾، وقوله: ﴿مَن عمل صالحًا مِن ذكرٍ أو أنثىٰ وهو مؤمنٌ فلنحيينّه حياةً طيّبةً ولنجزينَّهم أجرَهم بأحسنِ ما كانوا يعملون﴾، مع ما في القرآنِ مِن التّرغيبِ في أنواعِ الأعمالِ الصّالحةِ الكثيرةِ، والإشادةِ بأهلها، وترتيبِ الثّوابِ عليها، وما فيه أنّ بعضَها لا يعارضُ بعضًا، كما في قولِه: ﴿وما كان المؤمنون لينفروا كافّةً فلولا نفَر مِن كلِّ فرقةٍ منهم طائفةٌ ليتفقَّهوا في الدِّين﴾ الآية، وقولِه: ﴿هو الّذي أيّدك بنصرِه وبالمؤمنين﴾، وبيانِ أنّ للجنّةِ أبوابًا متعدِّدةً، يدخُلُ منها العاملون الّذين سِيقوا إليها زُمَرًا، كما قال الله سبحانه: ﴿وفتِّحتْ أبوابُها﴾. واستقصاءُ وجوهِ هٰذا المعنىٰ مِن كتابِ اللهِ يكادُ يكونُ معجِزًا.

وتبيَّن بالمقدِّمتين أنّ مِن اللهِ اختلافَ المختلفين، وأنّ إليه أعمالَهم المختلفةَ، وعليه ثوابَهم.

وإذا تمهَّدت المقدِّمتان: تَركَّبَ منهما نتيجةٌ، وهي أنّ الموفَّقَ لا يُكرِه النّاسَ علىٰ ما لا يُطِيقون مِن الأعمالِ والأحوالِ، ولا يُوجِبُ عليهم ما لم يوجبْه اللهُ، ولا يَعنُفُ عليهم في الاختيارِ، أن يكونوا مثلَه، أو مثلَ مَن يحبُّ، أو علىٰ ما يريدُ، فيَنصِبَ لهم معنًى واحدًا، يجعلُه فرقانَ ما بين السّعادةِ والشّقاء، وميزانَ الولاءِ والبراءِ، بل يكونُ ربّانيًّا يَكِلُ كلَّ محسنٍ إلىٰ إحسانِه، ويرضىٰ مِن كلِّ عاملٍ بما عَمِل، ويَعلَمُ أنّ في ذٰلك الاختلافِ التّكامُلَ الّذي به حسنُ الخلافةِ في الأرضِ.
ومِن النّتيجةِ أيضًا: أنّه لا يُكرِهُ نفسَه الّتي بين جنبيه علىٰ ما لا تُحسِنُ، ولا يَحمِلُها علىٰ ما تَعجِزُ عن حملِه، بأن يقذفَ بها في مهامهَ لتقومَ مقاماتِ قومٍ لم يُؤتَ ما أُوتوا، و﴿ذٰلك فضلُ اللهِ يؤتيه مَن يشاء﴾، بل يَعلَمُ مقدارَها، ويتحقَّقُ مَقامها، ويدركُ مُنتهاها، ويَعرِفُ مواقعَ رضا اللهِ منها، فيسوسُها إليه سَوْسًا رفيقًا، يحرِّكُها إليه، ثمّ يجمعُ عليه عزيمتَه، ثمّ يَفرَحُ بما رزَقه اللهُ به ويَقنَع.

والمؤمنُ ينقادُ إلىٰ ما يدعوه إليه كتابُ الله، وينتهضُ لمَن يُنهِضُه له، فإذا عَلِم منه هٰذه الأمورَ: جارىٰ مُراد اللهِ في قَدَره بها، فشَهِد معنىٰ قولِه: ﴿وهو الّذي جعلكم خلائفَ الأرضِ ورفَع بعضَكم فوق بعضٍ درَجاتٍ ليبلوَكم في ما آتاكم﴾، فسكَنت نفسُه لقدرِ اللهِ، ولم يُنافِس النّاسَ في ما ليس له به إذنٌ، ولا له عليه طاقةٌ، وعَلِم أنّه لن يحيطَ بأطرافِ الخير، ولن يبلُغَ أقاصيَ الفضيلةِ، وأن ليس محتاجًا إلىٰ ذٰلك، وأنّ قليلًا يحسنُه: يكفيه، فتَرَك الحَسَد، وأَقبَل على النّفسِ يستكملُ مطالبَها، ويحسنُ استعمالَها في ما جعَلها اللهُ له، ورضي عن اللهِ بما آتاه، وسَرَّه ما وجَد في إخوانِه مِن خيرٍ، ورجا لهم أن يوفَّقوا له، وكان كما أراد اللهُ مِن عبادِه إذ قال: ﴿والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعضٍ﴾.
ما قصّ الله علينا في سورة آل عمران، من شأن الرّبّيّين: ﴿فما وهَنوا لِما أصابَهم في سبيلِ اللهِ وما ضَعُفوا وما استكانوا واللهُ يحبُّ الصّابرين وما كان قولَهم إلّا أن قالوا ربَّنا اغفر لنا ذنوبَنا وإسرافَنا في أمرنا وثبِّتْ أقدامَنا وانصرنا على القوم الكافرين﴾، قدَّموا بين يدي حاجتِهم مِن النّصرةِ: حاجتَهم إلى المغفرة، فأوجب ذلك أن يكونوا قد لاحظوا عند التحامِ الجيوش ما فرَط منهم مِن الذّنب، وعلموا أنّه قد يكونُ مُهلِكَهم، فاستغفروا ربَّهم منه.

وهذا ممّا يشهدُ لضرورةِ عنايةِ العاملِ الموفَّقِ بنقدِ النّفسِ، وتعهُّدِها، وملاحظةِ أخطائِها، ومؤاخذتِها على النّقيرِ والقطمير، وأنّ ذلك هو الباعثُ على الإصلاحِ، وسرعةِ الأوبة، وقُربِ التّوبة، والجالبُ للنّصر.

ونجدُ أنّ اللهَ سبحانه رتَّب على ما ذكَر مِن دعائِهم هذا جزاءَهم الأوفى، واستحقاقَهم اسمَ "الإحسان" الّذي هو أعلى مقاماتِ العِرْفان، وبان أنّهم جمَعوا قوّةَ النّفسِ، ولَزِموا الصّبرَ على شدائدِ الجهادِ، ورصَدوا مداخلَ الخللِ عليهم، واعتنَوا بها، فبدءوا بها دعاءَهم، وتبرَّءوا منها لئلّا تقطعَ دابرهم، وتفني آخرَهم، وحصَروا في ذلك قولَهم، وجعلوا شأن الانتصار كالنّتيج المحتوم المترتّب على صحّة أسبابه، فأخّروه.

والسّورة كلّها تهذيبٌ للدّعاة إلى الله، والمجاهدين في سبيله، والعاملين لدينه، ومعالجةٌ لخطراتهم، وتحميلُهم أكملَ الأحوالِ، ومؤاخذتهم بالدّقيق الخفيّ، مِن أولها إلى آخرها.

وحسبكم ما خُتمت به.

= من القديم.
فكرةٌ في الآياتِ المجلوّة:

لمّا عَلِم اللهُ ـ جلّ اسمُه ـ مِن عبادِه أنّهم لا يستوون في المداركِ والمَواهبِ، ولا ينالون مِن العلمِ ـ إن هم طلبوه ـ بأجمعِهم أسنى المراتب، وأنّ كثيرًا منهم تفوته الآياتُ القرآنيّةُ الّتي بها قوّةُ إيمانِه، وثباتُ يقينِه، منهم مَن تفوتُه معرفةً، ومنهم مَن تفوتُه حفظًا، ومنهم مَن تفوتُه فهمًا، ومنهم مَن تفوتُه استحضارًا، وعَلِم عَجْزَ جملتِهم عن إقامةِ البراهينِ الجدليَّة، والحُجَجِ العقليَّة، وعَلِم حاجتَهم إلى ما يعلِّقُهم به ـ جلّ جلالُه، وعظُم نوالُه ـ، وكان بعبادِه رحيمًا، نوَّع لهم في البراهينِ، وعدَّد الآياتِ والأدلّةَ، ونصَب لهم ما يُسرِع جميعُهم به إليه مِن الأمورِ القريبةِ، ليستويَ المؤمنون في الانتفاعِ والاتّعاظِ، ويتقاربوا في أصولِ السّيرِ إلى اللهِ، ويأخذَ كلٌّ منهم حظًّا يعملُ به، ويَفِدُ إلىٰ ربِّه، ولا تبقىٰ لأحدٍ حجّةٌ بالجهلِ، فجعَل مِن ذٰلك شيئًا مِن العلمِ ظاهرًا لا يخفىٰ علىٰ ذي بصرٍ، ولا يحوجُ صاحبَه إلى استعدادٍ خاصٍّ، ولا إلىٰ دقّةِ نظرٍ، ولا إلى استشرافٍ بالحفظِ والمذاكرةِ والدّرسِ، بل هو مبذولٌ لكلِّ ذي قلبٍ حيٍّ، واستماعٍ سالمٍ، ونظرٍ خالٍ مِن العوارضِ، وذٰلك الآياتُ المجلوّةُ، وندَبهم أن يعتبروا بها، وقال: ﴿سنريهم آياتِنا في الآفاقِ وفي أنفسِهم حتّىٰ يتبيَّنَ لهم أنّه الحقُّ﴾، ﴿وفي أنفسِكم أفلا تبصرون﴾. وجعَل مِن وصفِ أولي الألبابِ أنّهم يجدون في ما يتقلَّبون فيه مِن آثارِ الصّنعةِ، ويتطاوحون فيه مِن حوادثِ اللّيلِ والنّهار، آياتٍ تقودُهم إليه، وأدلّةً تدلُّهم عليه، وأنّهم يتفكَّرون في خلقِ السّماواتِ والأرضِ، فيؤمنون ويوحِّدون ويوقنون ويُقبِلون.

ثمّ ذمّ مَن يُهمِلُ ذٰلك فقال: ﴿وكأيِّن مِن آيةٍ في السّماواتِ والأرضِ يمرُّون عليها وهم عنها مُعرِضون﴾.

ما أوسعَ رحمةَ ربِّنا، وما أشدَّ فضلَه علينا، فأين نحن مِن الاستجابةِ له، والانقيادِ، والاعتبارِ، والتّفكُّر!!!

ليلة الاثنين ١٨ ١١ ١٤٤٢.
قول الله سبحانه: ﴿ولئن أتيت الّذين أوتوا الكتاب بكلّ آيةٍ ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابعٍ قبلتهم وما بعضُهم بتابعٍ قبلةَ بعضٍ ...﴾

❏ فيه: أنّ مِن شأنِ النّفوسِ التّشبُّثَ بما تعتقدُ، والتّحيُّزَ لما سَبَق إليها، ولا تتركَه لما عليه غيرُها، ولو بُيِّنت معالمُه، وانبسطت حُجَجُه، وسَلِمتْ مآخذُه، وذلك لأنّ في النّفوسِ حبَّ العلوِّ، وكراهةَ التّواضع.

❏ وفيه أنّ العلمَ قد يكونُ غيرَ نافعٍ صاحبَه، فيُؤتَى المرءُ الكتابَ، ثمّ يتّخذه وراءَه ظهريًّا، وإنّ في الكتابِ للحكمَ السَّديد، والرّأيَ الرّشيد.

❏ وفيه أنّ الثّباتَ على الرّأيِ إنّما يوجبُ المذمّةَ إذا كان في معارَضةِ الآياتِ، وجحْد الحجج البيّنات، وتقليدِ الآباء والأجداد، والأخذ بالكبرياء والعناد، فأمّا إذا كان قائمًا على أساسِ الدّليلِ، جاريًا بمقتضى التّحرّي والنَّظر، أو كان بقاءً على أصل السّلامة، وتوقّيًا لشَيمِ كلّ بارق، وتصديق كلّ شارق، واتّباع كلّ ناعق، دهَشًا بالجديد، وملالًا مِن التّليد، فإنّه يكونُ ممدوحًا، فمِن أجلِ ذلك وجَب على صاحبِ الحقِّ الّذي حقَّق براهينَه، وكان منه على بيِّنةٍ مِن ربِّه، أن يكونَ ثابتًا عليه، مستيقنًا به قلبُه، ساكنةً له نفسُه، ولا ينقلبَ ولا يرتاب، وموضعُ ذلك مِن الآيةِ أن جعَل ربُّنا مِن خبَر نبيِّه أنّه لا يأتي منه أن يتبعَ قبلةَ أهل الكتاب، وقال له في مواضع: ﴿قل إنّي على بيّنة مِن ربّي وكذّبتم به﴾، ﴿اعملوا على مكانتكم إنّا عاملون وانتظروا إنّا منتظرون﴾.

❏ ويخلصُ منه أيضًا أنّ الرّجلَ إذْ يجزمُ بما عنده، ويستيقنُه، ويوسعُ له قلبَه، ويصونه، ولا يسامحُ فيه، يمكنه أن يخاطِبَ مَن يخالفُه، ويعاملَه بمقتضى المساكنة والمعايشة، وأنّه لا يلزمُ مِن اعتقادِ الحقِّ أن يُبغى به على الخلقِ، ويُجعَل الحقُّ غرَضًا للخصوماتِ، بل هو أنفسُ مِن ذلك، يُصانُ، وتعرفُ له كرامتُه. ويؤخذ هذا مِن الآيةِ مِن موضعين:

- مِن قولِه: ﴿ولئن أتيتَ الّذين أوتوا الكتاب بكلِّ آيةٍ﴾، وهو يقضي بمداخلتهم ومناقشتهم وحوارهم ومجادلتهم، أشدَّ المجادلة.

- ومِن قولِه: ﴿وما أنت بتابعٍ قبلتهم﴾، فإنّ تركَ اتّباعها لا يكونُ مدحًا للتّارِكِ إلّا إذا كان يجدُ السّبيلَ إلى اتّباعِها، ولا سبيلَ إلى اتّباعِها إلّا بدعوةِ أهلِها إليها، وقيامهم بها، وذلك إذا داناهم، فإذا وجَد أسبابَها ثمّ ترك اتّباعَها فهو الجازمُ بما عنده الممدوح، وأمّا مَن تركها لأنّه انفرد بنفسِه، ولم يخالطْ، فهذا لا يمدحُ بتركها، والله أعلم.

❏ وفيه أيضًا أنّ أهلَ الباطلِ لا يتّفقون، بل لا يزالون مختلفين، يغلِّطُ بعضُهم بعضًا، ويتولَّى بعضُهم عن بعضٍ، وذلك دأبهم الّذي وصفهم الله به: ﴿ولا يزالون مختلفين إلّا مَن رحم ربُّك﴾.

والله أعلم.

= من القديم.
ضربٌ مِن عون الله لعبادِه:

مِن رحمةِ اللهِ بخلقِه وعَونِه لهم: أن يقذفَ في قلوبهم إنكارَ المنكرِ الّذي فعلوا، واستقباحَ القبيحِ الّذي أتوا، ويكرِّه إليهم المعصيةَ الّتي اجترحوا، ليَستبشِعوها، فيجدوا بها شؤمَ الذّنب، فيَفتحَ لهم به بابا إلى التّوبةِ، فيبادروه، فيتوبَ عليهم.

ومِن شواهد ذٰلك ـ وهي كثيرةٌ ـ قولُ ربِّنا: ﴿يريد الله ليبيّنَ لكم ويهديَكم سُنَنَ الّذين مِن قبلِكم ويتوبَ عليكم واللهُ عليمٌ حكيمٌ واللهُ يريدُ أن يتوبَ عليكم﴾، ﴿واللهُ يدعو إلى الجنّةِ والمغفرةِ بإذنِه ويبيّنُ آياتِه للنّاسِ لعلّهم يتذكّرون﴾.

ومِن ذٰلك أيضًا أنّه أَخبَر عن بعضِ خلقِه أنّهم أَذنَبوا فانتبهوا، مثلُ قولِه: ﴿قالا ربَّنا ظلمْنا أنفسَنا وإن لم تغفرْ لنا وترحمْنا لنكوننّ مِن الخاسرين﴾، ﴿ولمّا سُقِط في أيديهم ورأَوْا أنّهم قد ضلّوا قالوا لئن لم يرحمْنا ربُّنا ويغفرْ لنا لنكوننّ مِن الخاسرين﴾، ﴿فلمّا أفاق قال سبحانك تبتُ إليك﴾، ﴿قال ربِّ اغفرْ لي ولأخي وأدخلْنا في رحمتك﴾، وهٰذه آياتٌ كلُّها في سورة الأعرافِ، وكذٰلك: ﴿وإن لا تغفرْ لي وترحمْني أكن مِن الخاسرين﴾، ﴿قالت ربِّ إنّي ظلمتُ نفسي وأسلمتُ مع سليمانَ لله ربّ العالمين﴾، ﴿قال ربِّ إنّي ظلمتُ نفسي فاغفرْ لي فغفَر له﴾، وآياتٌ مثلُها، وبعضُها ليس بذنبٍ صريح.

وهٰذا المذكورُ يشهدُ للحديثِ الواردِ في هٰذا البابِ، حديثِ النَّوّاسِ بن سِمْعانَ عند مسلمٍ: «الإثمُ: ما حاك في صدرِك، وكرهتَ أن يطّلعَ عليه النّاسُ».

فمَن أخطأه هٰذا النّورُ الإيمانيُّ والوازعُ الرّبّانيُّ، فلم تتحرَّك نفسُه عند المعصيةِ ليَرعويَ، ووجَد أنّه يألفُ أن يجاهرَ ربَّ العالمين ولا يبالي، فإنّما ذٰلك باسودادِ قلبه، واشتدادِ ذنبه، ويُوشِك أن يَهلِكَ، إن لم يتداركْ نفسَه قبلَ سوءِ المآب.

نسأل اللهَ السّلامةَ والحفظ.

= من القديم.
قولُ الله سبحانه: ﴿فلمّا اعتزلهم وما يعبدون مِن دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلًّا جعلنا نبيًّا ووهبنا لهم مِن رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدقٍ عليًّا﴾ فيه علمٌ غزيرٌ، وفوائدُ جمّةٌ، منها:

❏ أنّ من ترك شيئًا لله عوّضه الله خيرًا منه، فإنّ اللهَ رتَّب هبتَه على اعتزالِ مَن لزمت مفارقتُه لله، ولو كان للنّفسِ به متعلَّقٌ مِن جهةِ النَّسَب.

❏ وأنّ جزاءَ اللهِ وفتحَه قد يتأخَّر عن العاملِ، فيأتيه بعد زمانٍ مِن السّعي، لما في علمِ اللهِ وحكمتِه مِن المصلحةِ في ذٰلك، مثلُ استتمامِ النّعمةِ بعد استتمامِ البلاءِ، وتخليصِ العاملِ للهِ، فيُرفَعَ المكانَ العليَّ.

ويدلُّ علىٰ هٰذا ما يُعلَم في القَصَصِ مِن العهدِ البعيدِ بين هِجرانِ إبراهيمَ عليه السّلام لقومِه في زمانِ الشَّبابِ، وما دلّ عليه القرآنُ أنّه جاءه الولدُ بعد الكَبْرة.

❏ وأنّ الولدَ مِن أجلِّ النِّعم، وأعظمِ التّخويل.

فإن قيل: هو نعمةٌ عامّةٌ، يشتركُ فيها البَرُّ والفاجرُ، والمؤمنُ والكافرُ، فأيُّ تمييزٍ بها؟

فالجوابُ: أنّ ابنَ آدمَ لا يستحقُّ على اللهِ شيئًا، فكلُّ نعمةٍ مِن اللهِ لهم فمِن عظيمِ فضلِه، ورحمتِه، والأنبياءُ عليهم السّلام ليسوا كالدَّهماءِ الّذين يَعُدّون محضَ التّفضُّلِ حقًّا، ولا يعرفون ما مِن اللهِ لهم، بل هم أسيادُ العارفين باللهِ، يشاهدون ما يأتي منه علىٰ أتمِّ الوجوهِ، واللهُ سبحانه يريدُ أن يكونوا مِن أمره على المحلّةِ اللّائقةِ بشَمَمِ المنزلةِ، فيَرَوا نعمةَ اللهِ في كلِّ شيءٍ، ويعدّوا حقيرَ ما تراهُ الأعينُ آتيًا مِن أمرِ اللهِ جليلًا، وأن يتحقَّق منهم نعتُ العبوديّةِ للهِ الّذي كانوا باستتمامِه متبوَّأَ رسالاتِ اللهِ.

وأيضًا أنّ الهبةَ لم تكن بمطلَقِ الرَّزْقِ بالولدِ، بل كانتْ باستمرارِ النّسلِ، والتّبشيرِ أنّه لن ينقطعَ عَقِبُه، وباستمرارِ الصّلاحِ في بيتِه والنّبوّةِ. ومِن أجلِ ذٰلك ذكَر ولَدَ الولدِ مع الولدِ، في هٰذه الآيةِ، وفي غيرِها، كقولِ الله: ﴿ووهبْنا له إسحاقَ ويعقوبَ نافلةً وكلًّا جعلْنا صالحين﴾، وذكَر هٰهنا أنّ ولدَ الولدِ زيادةٌ، وفي ذٰلك استتمامٌ للنّعمةِ، وكقولِ الله: ﴿ووهبْنا له إسحاقَ ويعقوبَ وجعَلْنا في ذرّيّتِه النّبوّةَ والكتابَ﴾، وهٰذه أظهرُ في المراد، وكأنّ قولَه: ﴿ووهبنا له إسحاق ويعقوب﴾ في الموضعِ الّذي نحن فيه موضعِ مريم، فيه التّعليلُ، وإن كانت الألقابُ مِن حيثُ دلّت على الماهيّةِ لا مفهومَ لها ولا تعليلَ بها، والمعنى: الّذي عُلِم باسمِ إسحاق، وعلم باسم يعقوب، وجرىٰ مِن أمرهما في النّبوّة والصّلاح ما جرىٰ ... وهذا هو الّذي كشَف عنه تمامُ الآيةِ إذْ قال ربُّنا: ﴿وكلًّا جعَلنا نبيًّا﴾، ثمّ الآية الّتي بعدها.

❏ وأنّ استمرارَ النّسلِ مِن أجلِّ النِّعم، وأعظمِ التّخويل، وأنّ أحدًا لا يضمنُه لنفسِه، وكم ذابت القلوبُ حسراتٍ علىٰ قومٍ مِن الأخيارِ انقطعتْ أنسابُهم.

❏ وأنّ سارّةَ كانتْ من إبراهيمَ عليه السّلام بالمحلِّ الّذي يقتضي أن يرىٰ منها الولدَ، وأن تكونَ النِّعمةُ بولدِها ذاتَ شأنٍ عند إبراهيمَ عظيمٍ.

وموضعُ ذٰلك أن ذكَر إسحاقَ وابنَه يعقوبَ، وهما ذرّيّتُه منها، وأَعرَض عن ذكر إسماعيلَ أن يكونَ هو الموهوبَ له أو مِن الموهوبِ له، مع أنّه هو الولدُ البكرُ، وتعلُّقُ الوالدِ بالبكرِ هو أشدُّ تعلُّقٍ، وخاصّةً أنّه جاء بعد الكِبَر.

وقد ذكَر أهلُ التّاريخ أنّ سارَّةَ كانتْ أجملَ نساءِ أهل زمانِها، لم يكن بعد أمِّنا حوّاءَ إلىٰ زمانِها أجملُ منها، وكانتْ مؤمنةً، وكانت ابنةَ عمِّ إبراهيمَ عليه السّلام، فكان شديدَ الحبِّ لها لذٰلك.

❏ وأنّ المرءَ قد يرزُقُه اللهُ ولدًا واحدًا، لا يرزُقُه غيرَه، وقد يرزُقُه ولدين، فلا يكون ذٰلك حاملَه أن يقصِّر في الشّكرِ، ولا مانعَه أن يديمَ الفرحَ بما آتاهُ اللهُ، وأن يرضىٰ عن اللهِ بما رحمه، وكان به بَرًّا كريمًا، فإنّ كثيرًا مِن النّاسِ حُرِموا لذّةَ الولدِ، ولم يذوقوا لها حلاوةً، وإنّه رُبّ ولدٍ واحدٍ يُرزَقُه الإنسانُ يكونُ فيه مِن البركاتِ والنّفعِ والمصالحِ المعجَّلةِ والمؤجَّلةِ، ما لا يكون بكثرةِ الولدِ ... وحسبُنا مِن هٰذا النّبوّةُ الّتي تحدَّرت في نسلِ إبراهيمَ عليه السّلام مِن جهة ولديه، مِن جهة إسحاق وذرّيّته، ومِن جهةِ إسماعيل الّذي خرَج منه سيّد الكونين، ﷺ.

وإنّما يكونُ هذا لمَن عرَف نعمةَ الله، وشكَرها حقَّ شكرها.

❏ وأنّ العبرةَ ليست بالكثرة، فكم مِن رزقٍ قليلٍ تتّسعُ بركتُه، وتعُمُّ خيراتُه، وكم مِن رزقٍ كثيرٍ يعود وبالًا على العبدِ، لا يؤدّي حقَّه، ولا يعرفُ منزلته.

ومتىٰ وطَّن المرءُ نفسَه علىٰ هٰذا، امتلأ صدرُه رضًا عن اللهِ، وكان مسعودًا.
قولُ الله سبحانه عن إبراهيم ﷺ: ﴿وقال إنّي ذاهبٌ إلىٰ ربّي سيهدين ربِّ هبْ لي مِن الصّالحين﴾ ساق اللهُ هٰذا في مقامِ المدحِ لإبراهيم ﷺ، والتّنويهِ به، فعُلِم أنّه ممّا يرضاه اللهُ مِن عبادِه، ويشرعُ لهم أن يقتدوا بما فيه.

❏ وفيه ما ينبغي للمؤمنِ لحَظاتِ الضِّيقِ مِن الرّجوعِ إلى الله، وشرحِ الصّدرِ بما عنده، والتّعويلِ عليه، والفِرارِ إليه، والثّقةِ بنجدتِه عند المخافةِ، واليقينِ ساعةَ العسرِ بتيسيرِه، والقطعِ بفتحِه ونصرِه وتأييدِه، وربطِ القلبِ علىٰ هدايتِه وتسديدِه. وذٰلك الّذي جعَله يقولُ ما مدَحه اللهُ به: ﴿سيهدينِ﴾، قال ذٰلك أوّلَ ما خَطا في مهاجَرةِ قومِه، وحيدًا فريدًا، لا هاديَ له مِن النّاسِ، ولا رفيقَ، وجاء به كلامًا موصولًا بما قبله، لم يعطفْه عليه، للاتّصالِ المعنويِّ الشّديد.

ولم يكن ذٰلك الثّباتُ واليقينُ إلّا بما هو موقوفٌ عليه مِن حسنِ الإقبالِ على الله، وإيثارِ مرضاتِه، وابتغاءِ قربِه، وإفرادِه بالقصدِ والسَّيرِ والإرادةِ، وجمعِ القلبِ عليه، والانحياشِ عن كلِّ شيءٍ إليه، وأن يكونَ اللهُ هو الوِجهةَ، وهو الكفايةَ، كما دلّ عليه قولُه قبلُ: ﴿وقال إنّي ذاهبٌ إلىٰ ربّي﴾.

فمَن امتلأ مِن اللهِ حبًّا ورغَبًا، وانقطع إليه تعلُّقا وطلبًا، حتّىٰ لم يكن له في الوجودِ أحدٌ غيرُ اللهِ، ولا مَدّ سببَه إلّا إلىٰ مَولاه ... فاضت علىٰ قلبِه آثارُ لطفِ اللهِ، وألوانُ عنايتِه، وأسرارُ كفايتِه، فثبَت، واهتدىٰ، وأَبصَر، وأَنِس.

وإنّما يمحِّصُه بذٰلك الشّدائدُ والمِحَن، إذ تتزلزلُ القلوبُ، وتضيقُ الصّدورُ، وتتفرَّقُ الهِمَمُ كلَّ أوبٍ ... فهنالك يعرفُ المؤمنُ طريقَه، ويسلُكُه، فيثبُتُ بتثبيتِ اللهِ، وتكونُ له ثمَراتُ الإخلاصِ الباديةُ، وتبدو عليه علائمُه السّنيّة.

ونظيرُ هٰذه الآيةِ قولُ اللهِ عن نبيِّه ﷺ: ﴿الّذين قال لهم النّاسُ إنّ النّاسَ قد جمَعوا لكم فاخشَوهم فزادهم إيمانًا وقالوا حسبُنا اللهُ ونعم الوكيلُ فانقلبوا بنعمةٍ مِن اللهِ وفضلٍ لم يَمسَسْهم سوءٌ واتَّبَعوا رضوانَ اللهِ واللهُ ذو فضلٍ عظيمٍ﴾، وما أجَلَّ ما خُتِمتْ به الآيةُ مِن التّعرُّض لنفحاتِ اللهِ وفضلِه العظيم.

❏ وفيه أنّه مَن كان مع اللهِ فلا يستوحشُ، ولا يضيقُ، ولا يُغلَقُ عنه بابٌ إلّا فُتِحت له عشَرةٌ، ولا يُمنَعُ شيئًا إلّا أعطي خيرًا منه. وإنّما يستوحشُ ويُحرَمُ مَن لم يكن اللهُ معه، ومَن وكَله اللهُ إلىٰ نفسِه، بما كسَبتْ يداه.

❏ وفي قولِه: ﴿ربِّ هبْ لي مِن الصّالحين﴾ إمعانٌ في استلطافِ اللهِ، والطّمعِ في ما عنده، واقتضىٰ ذٰلك أن تعلّقتْ به النّفسُ وقد حقَّقت مقامَ التّوكُّلِ، والاعتمادِ، والإقبالِ، فأنار في القلبِ أنواعُ الفتحِ المبينِ، والتّيسيرِ، والتّكريم، فصحّت الرّغبةُ، وازداد الطَّمعُ، ولم يكن بالكبيرِ على اللهِ سبحانه ــ وهو الّذي لا يُعجِزه شيءٌ ــ أن يَشفِيَ مُنى النّفسِ ممّا أحلَّ، وأن يباركَ في ما يُؤتي، ولو قُدِّر بُعدُ الأمنيّةِ عن التّناوُل، وانقطاعُ الأسبابِ الظّاهرة عنها.

ويتبيَّنُ بهٰذا افتقارُ العبدِ إلىٰ ربِّه في كلِّ حينٍ، وسعةُ رحمةِ الله، وواسعُ فضلِه، وعادتُه في إتمامِ النِّعمةِ على المؤمنِ بعد البلاءِ، وتوسيعِ الرِّزقِ عليه، وما ينبغي للصّالحِ أن لا ينقطعَ عن مَدَدِ اللهِ بمَدَدِه، ولا يتركَ سؤالَه بعد سؤالِه، ولا يستغنيَ عن هِبتِه بعد هبتِه، ولا يستكثرَ عطيّتَه بعد عطيّتِه، بل يوسعُ السّؤالَ، ويديمُ الطَّمَع، ويستجدي ويزيد، واللهُ واسعٌ عليمٌ، واللهُ غنيٌّ كريم.

ونظيرُ هٰذا ما قصَّ اللهُ عن نبيِّه سليمان أنّه قال: ﴿ربِّ اغفرْ لي وهبْ لي مُلْكًا لا ينبغي لأحدٍ مِن بعدي إنّك أنت الوهّاب﴾.

فمَن كان ذا الفضلِ العظيم، ومَن كان هو الوهّابَ الكريم، أفلا يُطمَعُ في ما عنده؟ ويُسأَلَ الرِّزقَ الواسع، والتّخويلَ الّذي فيه الصّلاحُ والبِرُّ؟!

ففي اللهِ الطَّمَع، ومنه العطاءُ.

❏ وفي الآياتِ أيضًا: أنّ للِّسانِ شأنًا في تحريكِ القلب، وتثبيتِ النّفسِ، والعونِ علىٰ سَدادِ الرّأي، وحسنِ الاختيار، فمَن نطَق بالحقِّ، وهُدِي إليه لِسانُه كان له ذٰلك معونةً له علىٰ عزمِ القلبِ عليه، ومضيِّ الخطا نحوَه.

والله أعلم.
ذكَر اللهُ سبحانه وبحمدِه أنّ المؤمنين باللهِ واليومِ الآخرِ لا يوادّون مَن حادّ اللهَ ورسولَه، ولو كان أقربَ قريبٍ، ثمّ أشار إليهم بوصفِهم، وبيّن ما استحقّوا عنده، فقال تبارك اسمُه: ﴿أولئك كتَب في قلوبِهم الإيمانَ وأيَّدهم برُوحٍ منه ...﴾ الآيةَ.

يا أللهُ! ما أرحم ربَّنا! أعطاه عبادُه الصّدقَ في محبَّتِه، فلم يوالوا إلّا مَن والىٰ، ولا آثَروا أحدًا علىٰ مرضاتِه، ولا وادُّوا مَن حادَّه، فأوفىٰ لهم، وأكرمهم، وأغناهم، وكفاهم، أعطاهم الإيمانَ، وكتَبه في قلوبِهم، وأيُّ شيءٍ مثلُ الإيمانِ، على اللهِ فيه الضّمانُ! ثمّ زادهم فضلًا وكرمًا، فأيَّدهم بروحٍ منه، ووصَلهم بلطفٍ، وهدًى، وتوفيقٍ، ونورٍ، وأخبر عن ذلك بالفعلِ الماضي، ليكونَ عندك شيئًا متحقِّقًا ثابتًا مقطوعًا به مقضيًّا فيه، فبروحِ اللهِ تَحيا قلوبُهم، وبه تستدُّ سواعدُهم، وبه ترشُدُ أعمالُهم، وبه يَغلِبون الأعداء، ويَجلِبون الأنداء.

فيا مَن يخشىٰ علىٰ يقينِه، يريدُ أن يكتبَ اللهُ في قلبِه الإيمانَ، فلا يتزلزلُ ولا يزيغُ! هلمَّ إلىٰ حاجتِك.

ويا مَن يشكو ضعفَ نفسِه، وذلَّتَه، واجتماعَ الأعداءِ عليه، هلمَّ إلىٰ حاجتِك، ما أقربَك منها! إنّ لك مِن اللهِ ناصرًا، وإنّ لك باللهِ مؤيِّدًا، وإنّ رحمةَ اللهِ قريبٌ منك، وإنّ رُوحَ اللهِ ولطفَه طوعُ يديك، وعند ناظريك!

اصدُقِ اللهَ، وأخلصْ له المحبَّةَ، وأفردْه في المولاةِ، وكن سِلْمًا لأوليائِه، وعدوًّا لأعدائِه، تحبُّ بحبِّ اللهِ مَن أحبَّ اللهَ، وتوَالي في اللهِ مَن واليتَ، بوَلاءِ اللهِ، وتُبغِضُ ببغضِ اللهِ مَن حادَّ اللهََ، وتعادِي في اللهِ مَن عاديتَ بعِداءِ اللهِ، فأنت مع اللهِ، وباللهِ، وفي اللهِ، وللهِ.

اللهم ما أحوجَنا إليك، وما أغنانا بك، وما أولانا بلطفِك وعافيتِك وتوفيقِك وهدايتِك، فلا تكلْنا إلىٰ أنفسِنا طرفةَ عينٍ، ولا تقطع عنّا مَدَدَك، وسَدَدَك، اللهم اجعلنا مِن حزبِك المفلحين، واكتبْ في قلوبِنا الإيمانَ والحكمة، وأيِّدْنا برُوحٍ منك، أرحمَ الرّاحمين.
قولُ الله تعالىٰ: ﴿ولله المشرقُ والمغربُ فأينما تولّوا فثَمّ وجهُ اللهِ إنّ الله واسعٌ عليمٌ﴾ فيه إيناسُ الخائفِ، وتسكينُ فؤادِ المرتاع، وتعظيمُ رجاءِ الطّامع، واشتمالُ العبدِ في جميعِ أحوالِه، حيثما كان أينما كان، أنّ اللهَ معه، يعلمُ حالَه، ويرىٰ مكانَه، ويسمعُ نجواهُ، ويحيطُ به بقدرتِه وسلطانِه. وكيف لا يكونُ اللهُ سبحانه كذٰلك وللهِ المشرقُ والمغربُ وبيدِه ملكوتُ كلِّ شيءٍ، وكيف لا يكونُ كذٰلك وأينما تولّوا وجوهَكم فثَمَّ وجهُ الله، وكيف لا يكونُ كذٰلك والله هو الواسعُ العليمُ سبحانه.

ومِن العجَبِ أنّ جُمَلَ الآيةِ الثّلاثَ على اختصارِها دافقةٌ مِن ذٰلك المعنىٰ، مترابطةٌ في إفادتِه ترابُطًا عجيبًا، بأساليبَ متفنِّنةٍ، بُدِئ فيها باسمِ الله، وخُتِم بوصفِه، وتكرَّر اسمُ اللهِ في كلِّ جملةٍ، وحصَل فيها توكيدُ الاستقصاءِ والشّمولِ بما دلّ عليه عطفُ «المغربِ» على «المشرقِ»، ثمّ ما تناوَله لفظُ «أينما» وأشير إليه بـ«ثَمّ»، ثمّ ما صدَّقه مِن اسمِ الله الواسع، واسمِه العليم.

فالّذي في الآيةِ مِن إفادةِ هٰذا المعنىٰ شيءٌ بديعٌ عجيب!

وفي معناها قولُ اللهِ لنبيِّه ﷺ: ﴿وما تكونُ في شأنٍ وما تتلو منه مِن قرآنٍ ولا تعملون مِن عملٍ إلّا كنّا عليكم شهودًا إذْ تفيضون فيه﴾، وقال اللهُ لعبدِه موسى وهارون ابني عمران: ﴿لا تخافا إنّني معكما أسمعُ وأرىٰ﴾، فرَغِب إلىٰ عبادِه المصطَفين أن يستحضروه وأن تشهده قلوبُهم.

واستحضارُ ذٰلك في أوقاتِ الأزَماتِ: هو شأنُ الموفَّقين المؤمنين، كما قال موسىٰ وقد امتلأ قلبُه بما علّمه ربُّه: ﴿كلّا إنّ معي ربّي سيهدينِ﴾، وقال النّبيُّ ﷺ لصاحبِه: ﴿لا تَحزَن إنّ اللهَ معنا﴾.

ولا بدَّ أن يعقُب ذٰلك الاستحضارَ أثَرُه مِن حمايةِ اللهِ، ونصرتِه، وتأييدِه، واستجابتِه، كما حصَل لموسىٰ: ﴿فأنجينا موسىٰ ومَن معه أجمعين ثمّ أغرقْنا بعدُ الباقين﴾، وما حصَل لمحمّد ﷺ: ﴿فأنزل الله سكينتَه عليه وأيّده بجنودٍ لم ترَوها﴾، وانظُرْ كيف ترتَّب ذٰلك علىٰ ما قبله مِن الشّهودِ بالفاءِ الّتي تقتضي أن لا مُهلةَ ولا تراخيَ، فامتلئْ مِن ربِّك، وليكن في ألفافِ قلبِك.
قولُ الله الحكيم العليم: ﴿فرَدَدْناه إلىٰ أمِّه كي تقرَّ عينُها ولا تحزَنَ ولتعلمَ أنّ وعدَ اللهِ حقٌّ ولكنّ أكثرَهم لا يعلمون﴾، هٰذه الآيةُ أصلٌ كبيرٌ في القدر:

- ففيها تبجيلُ اللهِ سبحانه فاعلًا، لأنّه لا يفعلُ إلّا ما فيه صلاحٌ وخيرٌ، وذٰلك ملتمَسٌ مِن ضمير التّعظيم.

واطّرادُ هٰذا الأسلوبِ في القرآنِ وحده كافٍ للمتدبِّر في الثِّقةِ باللهِ، والرِّضا بما يقسمُ لخلقِه، والتّسليمِ لأمرِه سبحانه، وحسنِ الظّنّ به، فإنّه لا عظيمَ إلّا هو، ولا أكبَرَ منه، ولا أعلمَ، ولا أحكمَ، ولا أقدرَ، ولا معقِّبَ لحكمِه، ولا رادَّ لفضلِه.

- وفيها تعليلُ أفعالِ اللهِ سبحانه، بما دلّتْ عليه «كي» مصدريّةً لا تُستعمَلُ إلّا بحرف التّعليل، وإن حُذِف هنا، أو معلِّلةً، وهي أصرحُ، ثمّ ما دلّت عليه اللّامُ في «ولتعلم» معطوفةً علىٰ «كي تقرَّ» مزيدةً لتوكيد التّعليل، والتّقديرُ فيهما: لكيْ تقرَّ ولأن تعلم، أو: كي أن تقرَّ ولأن تعلم.

- وفيها سعةُ رحمةِ اللهِ سبحانه برعايتِه للقلوبِ الضّعيفة، وإذهابِ ما يغشاها مِن ألَمٍ جبَلها عليه بفراقِ مَن تحبُّ، وحزنٍ علىٰ فقدِه، وخشيةٍ لهلاكِه. وهٰذا بيّنٌ مِن إرادتِه سبحانه قرارَ عينِ المرأةِ أمِّ موسىٰ بسلامةِ ولدِها إذْ أعاده إليها فرأتْه معافًى، وإرادتِه ذهابَ حزنِها برجوعِه إليها واتّصالِها به. فقد أسعد اللهُ فؤادَها برجوعِه، وطيَّب خاطرَها بصحبتِه، كما ثبَّتها يومَ البلاءِ بفقدِه، كما قال مِن قبلُ: ﴿لولا أن ربَطْنا علىٰ قلبِها لتكونَ مِن المؤمنين﴾.

- وفي هٰذا الدَّلالةُ علىٰ عظيمِ شفَقةِ الأمّ، وكبيرِ حنانِها علىٰ ولدِها. وإذا تجلّت معه عنايةُ اللهِ بها، ورأفتُه، دلّ علىٰ ما ذكَرْنا أنّ اللهَ أرحمُ، تبارك وتعالىٰ.

- وفيها تثبيتُ اللهِ لعبادِه المؤمنين، وصيانتُه لإيمانِهم، وإذهابُه عن قلوبِهم دواعيَ الكفرِ والرَّيبِ، بما يُريهم مِن آياتِه، ويبسطُ عليهم مِن برَكاتِه، ليزدادوا إيمانًا وإيقانًا، وهو سبحانه الخالقُ للقلوبِ، العالمُ بتقلُّبِها، وتأثُّرِها، فهو يربّي عبادَه ويُطلِعُ عليهم أنوارَ حكمتِه، ويؤنسُ قلوبَهم بأسرارِ قدرتِه، فيتعهَّدُهم بما فيه لهم الطُّمأنينةُ، والسّكينة.

وهٰذا الّذي تضمَّنه قولُه: ﴿ولتعلم أنّ وعدَ اللهِ حقٌّ﴾، بعد أن قال: ﴿ربطْنا علىٰ قلبِها لتكونَ مِن المؤمنين﴾، فاعتنىٰ بها يومَ البلاءِ فثبَّتها، ثمّ خفَّف عنها البلاءَ فردَّ إليها ولدها، وأَظهَرَ لها فضلَه وصدَقها وعدَه.

- وتنزيلُ هٰذه المعاني على القصّةِ، يعطي أنّ موسىٰ عليه السّلام قد دبَّر اللهُ له صغيرًا، وأراد به خيرًا كثيرًا، إذْ أنشأه بين يدي عدوِّه، وصنَعه علىٰ عينِه، ولم يكن هٰذا ممّا يَعلَمُه أحدٌ مِن الخلقِ، ولا يدرون عاقبتَه، وكان اللهُ عليمًا حكيمًا.

- وفي هٰذا تنبيهُ المؤمنين أنّه لا يخلو تقديرٌ مِن لطفٍ، وأنّ اليسرَ تتضمَّنُه طيّاتُ البلاءِ المبين، وأنّ الفرَجَ معجَّلٌ لا محالةَ، وأنّ القدرَ موضوعٌ علىٰ سِرِّ الحكمةِ البالغةِ، وإذا تنبَّهت علىٰ ذٰلك سكَنتْ للأقدار، وركَنت للإقرار.

- وفي تنبيهِ اللهِ المؤمنين، وتذكيرِه العارفين، الّذين مِن شأنِهم أن يَثِقوا بضمانِه، ويأخذوا بأمانِه، ويعلموا ما أَطلَعهم عليه مِن سِرِّ تقديرِه، ويرتقبوا ما قدَّر لهم مِن سريعِ تيسيرِه، ففي ذٰلك دَلالةٌ علىٰ أنّ مَن لم يأخُذْ بالثِّقةِ عن اللهِ، والرّضا بما قضاه، أنّه ليس على الطّريقِ المأمون، ولا العمل المصون.

وهٰذا المعنىٰ هو الّذي خُتمت الآيةُ ببيانِه، إذْ وقَع فيها نفيُ العلمِ عن أكثر النّاسِ، بعد الإطْلاعِ علىٰ بعضِ الحكمةِ، وفيه توبيخُ المتسخِّطين على القدر، الّذين لا يثقون إلّا بما لمَستْه أيديهم مِن محسوسٍ، ولا يَنعَمون إلّا بالمعجَّل مِن متاعِ الدّنيا، وأمانِيِّ النّفوسِ، حبلُهم إلى اللهِ مبتورٌ، ويقينُهم بما عند اللهِ موتور.

- ونظمُ هٰذا المعنىٰ إلىٰ ما قبله يعطي العِظةَ الحسَنةَ، أنّه ينبغي للمؤمن أن ينأىٰ بنفسِه عن المنزلِ الوخيمِ، منزلِ الرِّيَبِ والجهالةِ والغفَلةِ، ويبرأَ مِن نعوتِ مَن نسي اللهَ ولقاءَه، ومَن كان باللهِ وحكمتِه وعلمِه غيرَ عالمٍ، فيفتحَ عينيه لما يدبِّرُ اللهُ، ويعلمَ أنّ فيه الحكمةَ، فيطَّلبَها ليوقنَ، ويتعرَّضَ لأسرارِ اللهِ مِن وراءِ تقديرِه ليطمئنَّ، ويعلمَ أنّه لا يخلو تقديرٌ مِن لطفٍ، ولا يرتفعُ قضاءٌ عن تيسيرٍ، وأنّ العاقبةَ للمتّقين، بالنّصرة والتّمكين، وبالفتحِ المبين، ومتىٰ فعَل ذٰلك كان شارحًا صدرَه بالرّضا والتّسليم أبدًا، وكان تعرُّفُه للأسرارِ ممّا يزيدُه ثباتًا ويقينًا، ووجَد الأسرارَ تنكشفُ له بفضلِ اللهِ مِن لطفِ تقديرِه، وتلوحُ أنوارُها في ما أطلع اللهُ في كتابِه مِن حسنِ تدبيرِه.

والله أعلم.
قول الله: (فأنزل اللهُ سكينتَه على رسولِه وعلى المؤمنين وألزمهم كلمةَ التّقوى وكانوا أحقَّ بها وأهلَها)، كافأهم سبحانه بعد الابتلاء، وبيّن وجهَ المكافأةِ، فذيَّل بقولِه: (وكانوا أحقَّ بها وأهلَها)، فأرشدنا إلى شرطِ الإكرامِ، أن يكون له المرءُ أهلًا، وأن يكونَ به أحقَّ، وهذا على معنى قولِه: (إنّ ربّك هو أعلم بمَن ضلّ عن سبيلِه وهو أعلم بالمهتدين)، وأشباهه.

فمَن أراد تثبيتَ اللهِ، وسكينتَه، ودوامَ توفيقِه ... فليُرِ ربَّه مِن نفسِه التّعلُّقَ بذلك، وليحرصْ على أن يكونَ مِن أهلِه، بطاعةِ مولاه، وإيثارِ ما عنده.
(وهُدوا إلى الطّيّب من القولِ وهُدوا إلى صراطِ الحميد) الكلامُ عن أهل الجنّة، وما يصيرُ لهم ... ودخَل فيه أنّ الطّيّبَ مِن القولِ هو مِن اللّذّاتِ والنّعيم، وأنّ اللهَ هو يهدي إليه كما يهدي إلى جميعِ مراضيه، وأنّ سبَبَه الإيمانُ والعملُ الصّالح ...

فمَن أراد استقامةَ لسانِه، وطِيبَ منطِقه، فليتسبَّب إليه بالسّبب الصّحيح، فاللهُ هو الّذي يطيّب ألسنةَ أوليائِه، ومَن كان مِن أهل الإيمان والعمل الصّالح فليجعل مِن همّتِه اختيارَ أعذبِ الكلامِ، وأطيبِ القولِ، فليطلبه من الله، وليبذل له السّبب، فإنّه مِن زينةِ الإيمانِ الّتي يرزقُها اللهُ مَن يشاءُ مِن عبادِه، ويهدي إليها مَن يريد.

زيّن اللهُ منطقَنا، وقلوبَنا، وسائرَ جوارحنا، وجعلنا مِن أهل الطِّيبةِ الطّيّبين.
قولُ الله سبحانه: ﴿وتَعاوَنوا على البِرّ والتّقوىٰ ولا تَعاوَنوا على الإثمِ والعُدوان﴾ قاعدةٌ تخترطُ جميعَ أعمالِ النّاس، وميزانٌ يُوزَن به كلُّ ما بين اثنين مِن أخذٍ وتركٍ، ذهَب في ذٰلك أبعدَ المذاهب، وشمل جميعَ المتعامِلِين.

* إجمال:

خلاصتُه: أنّ شرعَ اللهِ سبحانه منصوبٌ علىٰ حصولِ البِرِّ، وإصابةِ التّقوىٰ، وعلىٰ تركِ الإثمِ، ومجافاةِ العدوانِ على النّاسِ، كما قال في الآيةِ الأخرىٰ وقد أطلق القولَ إطلاقًا: ﴿إنّ اللهَ يأمر بالعدلِ والإحسانِ وإيتاءِ ذي القربىٰ وينهىٰ عن الفحشاءِ والمنكرِ والبغيِ يَعِظُكم لعلّكم تذّكّرون﴾.

* بيان:

❏ ولمّا كانت الآيةُ عن علاقةِ ما بين المرءِ والمرءِ: استُحضِر فيها البِرُّ والعدوانُ، لأنّ أحوالَ ما بين النّاسِ تتردَّدُ بين ذٰلك، فرسَمت الآيةُ الطّريقَ إلى البِرّ بالأمرِ به، وكفَّتْ عن العدوانِ بالنّهي عنه، وحسَمتْ في ذٰلك حَسْمًا.

❏ ثمّ عَلَت في الطّلب، وتمَّمت المرادَ، فتناوَلت جِماعَ ما بين المتعامِلِين، أن يكونَ وفاقَ أمرِ اللهِ، وإصابةَ مرادِه، وذٰلك أن أمرتْ بالتّقوىٰ، ودخَل في ذٰلك جميعُ التّقوىٰ، وأساسُ ذٰلك توحيدُ اللهِ، وإقامةُ شعائرِه العظيمةِ، وتحقيقُ سلطانِه في الأرضِ، ونهت عن الإثمِ، ودخَل في ذٰلك جميعُ الإثمِ، وأساسُ ذٰلك الشّركُ باللهِ، ونقضُ مواثيقِه العِظام، وتغييرُ معالمِ حكمِه أو تغييبُها.

❏ وجُمِع هٰهنا بين «البِرِّ» و«التّقوىٰ» لأنّ البِرَّ مُفضٍ إلى التّقوىٰ، والتّقوىٰ أعمُّ، وجُمِع بين «الإثم» و«العُدوان» لأنّ العُدوانَ مُفضٍ إلى الإثم، والإثمُ أعمُّ، فذُكِّر بالغايةِ الّتي يبتغيها كلُّ ملتزمٍ لأحكامِ اللهِ، فعلًا، وتركًا، وأُرِيدَ أن ينطلقَ المرءُ ممّا بينه وبين مَن يعاملُ إلىٰ أن يتحقَّقَ المقصودُ الأعظمُ منه، أن يكونَ البِرُّ مِن أجلِ التّقوىٰ، ويكونَ تركُ العُدوانِ مَنجاةً مِن الإثمِ، فبُيّن أنّ البِرَّ المطلوبَ لا يمكن أن يُوقِعَ في ما يخلُّ بالتّقوىٰ، وأنّ تركَ العُدوانِ المرغوبَ لا يعطي المسامحةَ في ركوبِ الإثم، لكثرةِ مَن يعثرُ في ذٰلك فينتهكُ سِتـرَ اللهِ.

* تلويح:

❏ وإذا عاوَدتَّ النّظرَ في ألفافِ الآيةِ وما وقَع فيها مِن الجمعِ بين الأوصافِ المذكورة: ألفيتَ فيها تلويحًا بنعوتِ أهلِ الدّين الّتي ينبغي أن يكونوا عليها: أهلِ العلمِ به، وأهلِ العملِ.

فأمّا صاحبُ العملِ فتهيِّئُه أن يكونَ ليّنًا في غيرِ ضعفٍ، وقويًّا في غيرِ عنفٍ، وتلك سِمةُ أهلِ الإيمانِ المنشرحةِ للدّينِ صدورُهم.

وأمّا أهلُ العلمِ فتعرّفُه أسرارَ التّشريعِ، وتعلّمه الغوصَ على المعاني، إذْ تربطُ بين أحكامِ الشّريعةِ المختلفةِ، وتنبِّهُ علىٰ مقاصِدِها بوسائلِها، وتُعنىٰ بالوسائلِ المفضيةِ إلى المقاصدِ، ليكونَ في تلقّيه لأمرِ اللهِ ونهيِه علىٰ بصيرةٍ مِن ذٰلك.

=
= تابع

* تناول الآية للكفّار:

❏ ولوَّح لفظُ البِرِّ والعدوانِ، ولفظُ التّقوىٰ والإثم، بأنّ شأنَ مَن يُعامَلُ أن يكونَ واقعًا في الإثم، ومجانبًا للتّقوىٰ، وأن شأنَ المؤمن إذ يعاملُه أن يَعدُوَ عليه ولا يَبَرَّه، فجُعِل إلىٰ تقواه سبيلُ أن يُبَرَّ، وإلىٰ تركِه الإثمَ أن لا يُعدَىٰ عليه.

وإنّما يصدُقُ هٰذا على المخالفِ في الدّيانة، وهو الكافرُ، وقد تناوَله لفظُ الآيةِ صريحًا، كما أبيِّن لك.

ووجهُ ذٰلك: أنّ وزنَ الفعلِ «تَعاوَن» في قولِه: ﴿وتعاوَنوا﴾، وقولِه: ﴿ولا تَعاوَنوا﴾، موضوعٌ للدّلالةِ على الاشتراكِ في الفاعليّة، لا يكونُ إلّا مِن فاعلَين متقابلَين مشتركَين في الفعلِ أو أكثرَ، وأنّ واوَ الجماعةِ الفاعلَ في الموضعين شَمِلتْ فريقين: فريقَ المؤمنين، وفريقَ الكافرين، فأمّا المؤمنون فعيَّنهم مِن الآيةِ أنّهم المخاطَبون بالكلامِ مِن أوّلِ السّورةِ بقولِه: ﴿يا أيّها الّذين آمنوا أوفوا بالعقود﴾، ﴿يا أيّها الّذين آمنوا لا تحلّوا شعائرَ الله﴾، وهم المخاطَبون بالقرآنِ ابتداءً، لأنّهم المؤمنون به، وأمّا الكافرون فقد ذُكِروا في الآيةِ الّتي قبلَ هٰذه في قولِه: ﴿ولا آمّين البيتَ الحرام يبتغون فضلًا مِن ربِّهم ...﴾، ثمّ قولِه في هٰذه الآيةِ قبلَ الجملةِ المتلوّة للادّكار: ﴿ولا يجرمنّكم شنآنُ قومٍ أن صدّوكم عن المسجدِ الحرامِ أن تعتدوا﴾، فصار معنى الكلام: وتعاونوا أيُّها المؤمنون والمشركون على البِرّ والتّقوىٰ ... وغلَب المؤمنون فجرى الكلامُ خطابًا لهم، علىٰ أسلوبِ العرَب المعهودِ، أنّه إذا اجتمع المخاطبُ والغائبُ غُلِّب المخاطَبُ في الكلام، لأنّ رتبتَه أرفعُ مِن رتبةِ الغائبِ، ونظيرُه قولُ لقيطٍ الإياديّ يخاطبُ قومَه يحذِّرهم غزوَ فارسَ لهم:

أنتم فريقان هٰذا لا يقومُ له
هصرُ اللّيوثِ وهٰذا هالكٌ صَقَعا


وحصَل مِن مجموعِ ذٰلك أنّ المعنىٰ: إذا دعاكم مَن تبغضونهم إلىٰ خُطّةٍ فيها البِرُّ والتّقوىٰ، فتعاونوا أنتم وهم عليها، فهي ممّا أمر الله به، ورضيه لعبادِه، وإذا دعَوكم إلىٰ خطّةٍ فيها مِن حرماتِ الله، مِن الشّرك، والإثم، فلا تتعاونوا عليها.

❏ فتقرَّر بهٰذا البيانِ أنّ الآيةَ تشملُ في الأمرِ بالمعونةِ: الكفّارَ الأصليّين الّذين يحاربون اللهَ ورسولَه، والّذين مِن حكمِ الإيمانِ أن يُبغَضوا في الله، أنّهم إذا أرادوا ما فيه صلاحٌ وخيرٌ أُعِينوا عليه.

وقد جرىٰ علىٰ حكمِها النّبيُّ ﷺ إذ قال عن كفّار قريشٍ يومَ الحديبية: «والّذي نفسي بيدِه لا يسألوني خطّةً يعظِّمون فيها حُرُماتِ اللهِ إلّا أعطيتُهم إيّاها» [البخاريّ من حديث المسور بن مخرمة (2731)].

وفي معناها أن أباح اللهُ للمؤمنين أن يزيدوا علىٰ ذٰلك بأن يبدءوا هم بالبِرِّ، وأن يعاملوا بالسّويّةِ والقسطِ، وأخبرهم أنّ ذٰلك ممّا يحبّه سبحانه، كما قال: ﴿لا ينهاكم اللهُ عن الّذين لم يقاتلوكم في الدِّين ولم يخرجوكم مِن دياركم أن تَبَرُّوهم وتُقسِطوا إليهم إنّ اللهَ يحبّ المقسطين﴾، وهٰذا أسمحُ.

* فحوى الخطاب:

❏ وإذا كان هٰذا الّذي يُعطَى الكفّارَ الأصليّين، فأن يكونَ ذٰلك لمَن كان مِن أهلِ الإيمانِ باللهِ ورسولِه، وأهلِ الصّلاةِ والزّكاةِ والصّيام، أَولىٰ، لأنّهم قد شَمِلهم اسمُ الإيمانِ أوّلًا، فكانوا أحقَّ بالأمرِ بالمعونة، وأولىٰ بالنّصرةِ في اللهِ، لأنّه إذا أُمِر المؤمن أن يعاون الكافرَ في الخير، فأَن يُؤمَرَ بمعاونةِ أخيه المؤمنِ أجدرُ، ويُستخرَجُ ذٰلك مِن الآيةِ علىٰ طريقِ التّنبيهِ بأبعدِ الأمثلةِ علىٰ أقربها، وإنّما أُمِر بمعونةِ الكافرِ لأنّه ربّما ارتاب المؤمنُ في جوازِ ذٰلك، فأمّا جوازُ معونةِ المؤمنِ في الخيرِ، فأمرٌ لا ينبغي التّردُّدُ فيه.

* نكتة:

❏ وإنّما جاء بقولِه: ﴿ولا تعاوَنوا على الإثم والعدوان﴾ بعد أن أَفهَمه الأمرُ بالتّعاونِ على البِرِّ والتّقوىٰ: لتقريرِه، والتّصريحِ به، فيكونَ ذٰلك أذهبَ في استشناعِه، والنّهيِ عنه، ولحدِّ الحدودِ الشّرعيّةِ في المعاملاتِ، لئلّا يَتعلّق متعلِّقٌ بأوّلِ الآيةِ فيتمادىٰ حيث لا يباحُ له، فجاء الحكمُ فاصلًا بين الضّربين، ضابطًا ما لكلٍّ منهما، فارقًا بين الحلالِ والحرام، وهو طريقةُ القرآنِ في البيان، أن يبلغَ منه غايةَ الوضوحِ، ليكونَ فيه تمامُ الهدىٰ.

=
= تابع

* عبرة:

❏ ولهٰذا المعنىٰ مِن شواهدِ القرآنِ والسّنّة ما لا يضبطُه التّقييدُ، وإذا تأصّل: وُزِن به ما يُشِيعُه كثيرٌ مِن النّاسِ اليومَ علىٰ أنّه هو السّنّةُ المحضةُ، ومقتضى المنهاجِ السّويِّ، يجتثّونه اجتثاثًا: مِن البتِّ في هِجرانِ مَن تلبَّس ببدعةٍ أو أَعلَن خلافًا لما دلّ عليه القرآنُ والسّنّةُ في بابٍ مِن الأبوابِ ممّن ثبَت دينُه بيقينٍ، وإذا عُلِم أنّه خلافُ ما تقرَّر في هٰذه الآيةِ وأمثالِها وهو في القرآنِ والسّنّةِ كثيرٌ: تبيَّن أنّه خلافُ حكمِ اللهِ عزّ وجلّ الّذي رضي لعبادِه المؤمنين أن يعاملوا به. وما هو إلّا مِن فسادِ الفهمِ، المفضي إلى الظُّلم، والبغيِ في الحكمِ.

❏ وقد أوجب قولَهم ذٰلك ولوازمَه الفاسدةَ خللٌ منهم في التّصوُّر يتتابَعون عليه، وخللٌ في الإرادة.

- أمّا خللُ التّصوُّر فأمران:

الأوّل: قصورٌ في النّظر، واستعجالٌ لأواخرِ الأمورِ قبلَ استتمامِ أوائلِها، قذَف بهم في الاشتغالِ بساحاتِ الخلافِ دونَ ضبطٍ لمواضعِ الوفاقِ، ومباني الحقائقِ، ألا ترىٰ أنّهم جعَلوا الأمورَ العارضةَ الّتي تُذكَرُ في مواطنِها المخصوصةِ: هي الأصولَ المستقرّةَ الّتي يعاودونَ الحديثَ فيها، ويدندنون حولَها، ويحاكمون إليها، وإذا ما نُوزِعوا فيها صاحوا: رُدّت السّنّة بالأهواءِ، وانتشرت البدعُ! وإذا رُدّ عليهم قالوا: قد صار أهلُ السّنّةِ غرَضًا لكلِّ أثيمٍ! وقد قلتُ يومًا لبعضِهم:

ولستَ أنت السُّنّةَ، الزَمْ حَدَّكا
فلم يَرُدُّ سنّةً مَن رَدَّكا


والأصولُ الشّرعيّةُ المستقرّةُ شيءٌ غيرُ العوارضِ، ولا تُفهَم العوارضُ حقَّ الفهمِ ولا يُعرَفُ تفسيرُها تمامَ المعرفة، ولا يمكنُ استعمالُها استعمالًا صحيحًا، إلّا بالأصولِ، والأصولُ عن القومِ غائبةٌ، لأنّها تحتاجُ إلىٰ كثيرٍ مِن تحرّي مرادِ اللهِ ورسولِه، وطلَب العلمِ، والقومُ أخَذوا منهجَهم مِن كتبِ الرّدودِ، لا مِن كتابِ المعبود، فصار فهمُهم خلافَ ما أراد اللهُ ورسولُه ...

والآخر: أن ترَكوا التّعويلَ علىٰ ما في الكتابِ والسّنّة، باستقراءِ الأحوالِ، وتتبُّع المواقع، لأنّه أمرٌ شاقٌّ لا يكادُ يقتدرُ عليه إلّا الأفذاذ، فتركوه واكتفَوا دونه بآثارٍ مرويّةٍ عن بعضِ السّلفِ، يحتفُّ بها مِن موجِباتِ التّقييدِ والتّخصيصِ والتّأويلِ والبيان ما يحتفُّ، ويجوزُ عليها الخطأُ، وهم يؤاخذون غيرَهم بترك الاشتغالِ بالوحي، ويرمونهم بالتّقصير في التّعويلِ عليه، ويتلون: ﴿فإن تنازعتم في شيءٍ فردّوه إلى اللهِ والرّسول﴾! وإذا ذاكَرتَ أحدَهم بآيةٍ في موضوعٍ يراودك عليه، أو قرَّرتَ عليه معنًى قرآنيًّا مستمرًّا: رأيتَه ينظُرُ إليك تدور عيناه!

- وأمّا خلل الإرادة: فمترتِّبٌ عن خللِ التّصوُّر، وهو سوءُ الظّنِّ بأهل العلم، وتهمةُ البُرآءِ، وحملُهم علىٰ أضيق المحامل، ثمّ نصبُ الباغين أنفسَهم حكّامًا على الخليقة، يعدّون أنفسَهم حماةَ الحقيقة!

ومِن أعيبِ العيبِ أن يصفَ المرءُ أخاه بما هو فيه، ويبغي البرآءَ العنَتَ، وأن يجعلَ عِرضَه كلَأً يستبيحُ به الأعراضَ المصونةَ!

إنّ الرّجلَ متىٰ ما اشتَغَل بتعرُّفِ نفسِه، وتكميلِ فضائلِها، وإصلاحِها، شغَلته أوهامُه الكثيرة، ونقصُه المستفحلُ، وما يعلمه عن نفسِه مِن ضعفِ الهمّةِ، وسوءِ النّيّة، وقلّةِ الصّدق، ورقّة الدّين، ونقصِ اليقين، شغلتْه عن كلِّ شيءٍ، وإنّ ذٰلك لهو منهاجُ المناهجِ، الّذي لا يقيم العاقلُ في دربٍ سواه.
قول الله تعالىٰ: ﴿واستعينوا بالصّبر والصّلاة وإنّها لكبيرةٌ إلّا على الخاشعين الّذين يظنّون أنّهم ملاقو ربّهم وأنّهم إليه راجعون﴾ جمع في ما أمَر بني إسرائيل تعليلًا وتعليمًا، علّمنا كيف نستعينُ علىٰ أمورِنا أنّ ذٰلك بالصَّبر وبالصّلاة، ثمّ علّمنا أنّ الصّلاةَ شاقّةٌ على النّفوسِ تنافي الأهواء، فلا تحصلُ المعونةُ بها إلّا للخاشعين المتذلّلين الّذين آثَروا العبادةَ، وخضَعوا لله، وهم الّذين يحضُرون أعمالَ الصّلاة مواطئةً قلوبُهم أقوالَها، وأفعالَها، وأحوالَها، ويأتونها في إقبالٍ وصدقٍ وانشراحٍ. وبيّن لنا طريقَ تحصيلِ السّكينةِ والخشوعِ، أنّه ذكرُ لقاءِ اللهِ للجزاءِ، والرّجوعِ إليه في يومِ الحساب، واستحضارُ عظيمِ أجرِه وواسعِ نوالِه، فإنّ ذٰلك مهما ذكَره الإنسانُ: هوَّن عليه المشقّة، ورغَّبه في الاجتهاد، فانقاد لأمرِ الله، وأَحسَن صلاتَه، وخشَع فيها، وسهُلتْ عليه. وقد وصَفت الآيةُ الخاشعين بما ذُكر، تلويحًا للعلّةِ في ما كان منهم مِن الخشوعِ: أنّها استحضارُ لقاءِ اللهِ وثوابِه وحسابِه، ولم يكتفِ بقولِه: ﴿أنّهم ملاقو ربِّهم﴾ حتّىٰ عطَف عليه ﴿وأنّهم إليه راجعون﴾ وهما في معنًى، وإنّما جاء بالمعطوفِ تلوينًا في الخطابِ وتوكيدًا. ويُعلَم بذٰلك أنّ مَن لم يَرَ الخشوعَ فليعلم أنّ إيمانَه باليومِ الآخرِ إيمانٌ ناقصٌ مدخولٌ، فإنّه متىٰ أيقن به إيقانًا لم يكن بُدٌّ مِن ظهورِ آثارِه.

وفي هٰذا شيءٌ مِن ثمَرة الإيمان باليومِ الآخر طرَّقتْ لها الآيةُ، وهي إحسانُ العملِ، وبلوغُ أقصىٰ وجوهِه.

ونظائرُها في كتابِ الله تعالىٰ كثيرٌ جدًّا، مثلُ قولِه: ﴿والّذين يؤتون ما آتَوا وقلوبُهم وجلةٌ أنّهم إلىٰ ربِّهم راجعون أولئك يسارعون في الخيراتِ وهم لها سابقون﴾، ﴿أمَن هو قانتٌ آناء اللّيلِ ساجدًا وقائمًا يحذرُ الآخرةَ ويرجو رحمةَ ربِّه﴾، وقوله عن الأبرار: ﴿إنّما نطعمكم لوجهِ الله لا نريدُ منكم جزاءً ولا شكورًا إنّا نخاف مِن ربِّنا يومًا عبوسًا قمطريرًا﴾.

وفي معناها: ما يُذكَر مِن ثوابِ الأعمال، وفضائِلها، فإنّ ذٰلك ممّا يعينُ على الإتيانِ بها على الوجهِ المرضيّ، وينشّطُ النّفوسَ لها تنشيطًا.

ومَن تتبَّع القرآنَ الكريم، أمكن أن يمليَ جزءًا كاملًا يستقري به وجوهَ هٰذا المعنىٰ، وهو معنًى دينيٌّ إيمانِيُّ قرآنِيٌّ سلوكيٌّ جليلٌ.
قول الله في أوائل سورة آل عمران: (واللهُ يؤيّد بنصرِه مَن يشاء إنّ في ذلك لعبرةً لأولي الأبصار) بعد أن وصَف حالَ الفئتين المقتتِلتين المؤمنين والكافرين، وبان بذلك قلّةُ ما بيدِ المؤمنين، ورقّةُ حالِهم، وضعفُهم في الأسبابِ الظّاهرة ... ثمّ أظفرهم اللهُ على عدوِّهم، فكان في ذلك آيةٌ للنّاسِ، كما قال اللهُ في أوّل الآية، فعقّب بهذا الكلام الشّريف الفخيم المؤدّب، فانكشف به أنّ معيارَ النّصرِ ليس قوّةَ السّلاح، وإنّما هو قوّة الصّلاح، ولزومُ سبيل الفلاح، فقوّة السّلاحِ يمدّها الغُرور، وقوّة الصّلاح يكلؤُها الغفور الشّكور، وفي تعبيرِه بـ(يؤيّد) الّذي يدلّ على التّجدُّد: ما يطرُدُ المسألةَ إلى زمانِنا هذا.، وإلى ما شاء الله.

ثمّ أدَّب اللهُ المؤمنين أن لا يذهبوا مع الشّائعات، ولا يعملوا على الأوهامِ، فيكونوا كالّذين قالوا: لا قِبَلَ لنا بعدوِّنا! فيتركوا ما أمرهم الله به مِن الجهاد، وإنّما عليهم أن يعتبروا بما جَرى مِن لطفِ اللهِ للمؤمنين السّابقين، فإنّه مقتضى حكمتِه وقوّتِه.

ولكن، أنّى لأكثر النّاسِ أن يدركوا الحقيقةَ أو يضبطوا النّفوسَ في أحلكِ الأيّام! وإنّما هَمُّ أحدِهم اللّغوُ والضّربُ ذاتَ اليمين وذاتَ الشّمال، وكم ممّن يملأ شدقيه صباحَ مساءَ يتخوَّضُ في ما لا يحسن، ويوشك أن يكذِّبَه اللهُ بنصرِ الّذين آمنوا، كما نصَر الّذين آمنوا.

وإنّما يصيبُ الصّوابَ في هذه المآزق مَن رزَقه الله بصَرًا فأحسن البصرَ به، وقليلٌ مّا هم.

وفي هذا التّذييل من الآيةِ تنبيهٌ على مراتبِ النّاس في المعرفة والفهم، ولا سيّما مضايق الحكم، وأنّ كثيرًا مِن النّاسِ ليسوا بأهلٍ للخوضِ في الأمور، وإنّما الّذي يلزمهم ديانةً الإمساكُ، والإقبالُ على اللهِ ودعاؤُه والعملُ الصّالح.

والله أعلم.
2024/11/15 09:18:11
Back to Top
HTML Embed Code: