group-telegram.com/bawarik/127
Last Update:
في شطر سورة مريم الأوّل:
ذكَر اللهُ زمرةً مِن خيارِ عبادِه المصطَفَين، ففرَّق أحوالَهم، ونوَّع صفاتِهم، وحلَّىٰ كلًّا منهم بغيرِ حليةِ أخي، وذكَر منهم علىٰ وجهِ التّفصيلِ: زكريّاءَ، ويحيىٰ، وعيسىٰ، وإبراهيمَ، وموسىٰ، وإسماعيلَ، وإدريسَ، ثمّ عاد فأجملهم في «ذرّيّة آدم»، و«مَن حمل مع نوحٍ»، و«ذرّيّة إبراهيم، وإسرائيل»، وسائرهم، وجمَعهم في نعتٍ واحدٍ هو أنّه أَنعَم عليهم بالاصطفاءِ، وهداهم، وأنّهم جميعًا عابدون لله، يخشعون عند تلاوةِ آياتِه ...
فيعطيك هٰذا التّفرُّقُ والاجتماعُ معنًى جليلًا، هو أصلٌ في استقامةِ الحياةِ علىٰ مرادِ اللهِ مِن الخلقِ، يقومُ علىٰ مقدّمتين:
❏ الأولى: اختلافُ الأحوالِ، والطّبائعِ، والصّفاتِ، والمواهبِ، والغرائزِ، والأذواقِ، والصُّوَر، والأشكال، والعوائد، في ما خلَق اللهُ سبحانه وذرَأ.
وهٰذا بيِّنٌ مِن اختلافِ ما قَصَّ اللهُ علينا مِن نبإِ عبادِه، في ما ذكَرْنا.
وقد نبَّه سبحانه علىٰ ذٰلك، وجعَله آيةً علىٰ وَحْدانيّته، كما قال: ﴿ومِن آياتِه خلقُ السّماواتِ والأرضِ واختلافُ ألسنتِكم وألوانِكم﴾، وقال ربُّنا يتعرَّف إلينا بذٰلك: ﴿ألم تَر أنّ الله أنزل مِن السّماء ماءً فأخرجْنا به ثمَراتٍ مختلفًا ألوانُها ومِن الجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وحُمْرٌ مختلفٌ ألوانُها وغرابيبُ سودٌ ومِن النّاسِ والدّوابِّ والأنعامِ مختلفٌ ألوانُه كذٰلك ...﴾، وقال: ﴿وهو الّذي أنزل مِن السّماء ماءً فأخرجْنا به نباتَ كلِّ شيءٍ فأخرجْنا منه خضرًا نخرج منه حبًّا متراكبًا ومِن النّخل مِن طلعِها قنوانٌ وجنّاتٍ مِن أعنابٍ والزّيتون والرّمّان مشتبهًا وغيرَ متشابِهٍ انظُروا إلىٰ ثَمَرِه إذا أثمر وينعِه إنّ في ذٰلكم لآياتٍ لقومٍ يؤمنون﴾، وقال: ﴿وفي الأرضِ قِطَعٌ متجاوراتٌ وجنّاتٌ مِن أعنابٍ وزرعٌ ونخيلٌ صنوانٌ وغيرُ صنوانٍ تُسقىٰ بماءٍ واحدٍ ونفضِّلُ بعضَها علىٰ بعضٍ في الأكل إنّ في ذٰلك لآياتٍ لقومٍ يعقلون﴾.
ومتى اجتمعتْ وجوهُ هٰذه الآياتِ الكريماتِ في القلبِ: رسَخ فيه أنّ الاختلافَ بين الخلائقِ مبدأٌ كونِيٌّ مستقرٌّ، لا يُناهَضُ، ولا يُعارَضُ، فيتنبَّهُ عليه الإنسانُ حيث مَرَّ به، فيتّسعُ له صدرًا، ويسكُنُ له نفسًا.
❏ والأخرىٰ: أنّ كلَّ صاحبِ حالٍ يمكنُه أن ينتهيَ بها إلى اللهِ، وأنّ كلَّ عاملٍ ومحترفٍ له بحرفتِه وسيلةٌ يجدُ عند اللهِ ثوابَها، وشكرَها، وأنّ كلَّ ممكَّنٍ مِن بابٍ مِن أبوابِ الصّلاحِ قد جُعِل له أن يتَّلجَ منه إلىٰ حضرةِ مولاه، وأن يقفَ به علىٰ عَتباتِ جنابِه، ليكونَ مَحَلًّا لعنايتِه، ورعايتِه، ورضاه، وإكرامِه، وليس ذٰلك مقصورًا علىٰ صنفٍ بعينِه، ولا مخصوصًا به أهلُ حالٍ دونَ غيرِهم.
وهٰذا مأخوذٌ مِن موضعِ ما جمَع اللهُ فيه الأنبياءَ مِن إنعامٍ وثناءٍ، ويدُلُّ عليه مواضعُ مِن كتابِ اللهِ كثيرةٌ، ووجوهٌ مختلفةٌ، منها أنّ اللهَ سبحانه أَطلَق اسمَ العاملين إطلاقًا يتناولُ جميعَ أعمالِهم، ولم يفرِّقْ بينها تفريقًا يخرجُ بعضَها، كقولِه: ﴿فنعم أجرُ العاملين﴾، ﴿ادخلوا الجنّةَ بما كنتم تعملون﴾، وقوله: ﴿مَن عمل صالحًا مِن ذكرٍ أو أنثىٰ وهو مؤمنٌ فلنحيينّه حياةً طيّبةً ولنجزينَّهم أجرَهم بأحسنِ ما كانوا يعملون﴾، مع ما في القرآنِ مِن التّرغيبِ في أنواعِ الأعمالِ الصّالحةِ الكثيرةِ، والإشادةِ بأهلها، وترتيبِ الثّوابِ عليها، وما فيه أنّ بعضَها لا يعارضُ بعضًا، كما في قولِه: ﴿وما كان المؤمنون لينفروا كافّةً فلولا نفَر مِن كلِّ فرقةٍ منهم طائفةٌ ليتفقَّهوا في الدِّين﴾ الآية، وقولِه: ﴿هو الّذي أيّدك بنصرِه وبالمؤمنين﴾، وبيانِ أنّ للجنّةِ أبوابًا متعدِّدةً، يدخُلُ منها العاملون الّذين سِيقوا إليها زُمَرًا، كما قال الله سبحانه: ﴿وفتِّحتْ أبوابُها﴾. واستقصاءُ وجوهِ هٰذا المعنىٰ مِن كتابِ اللهِ يكادُ يكونُ معجِزًا.
وتبيَّن بالمقدِّمتين أنّ مِن اللهِ اختلافَ المختلفين، وأنّ إليه أعمالَهم المختلفةَ، وعليه ثوابَهم.
وإذا تمهَّدت المقدِّمتان: تَركَّبَ منهما نتيجةٌ، وهي أنّ الموفَّقَ لا يُكرِه النّاسَ علىٰ ما لا يُطِيقون مِن الأعمالِ والأحوالِ، ولا يُوجِبُ عليهم ما لم يوجبْه اللهُ، ولا يَعنُفُ عليهم في الاختيارِ، أن يكونوا مثلَه، أو مثلَ مَن يحبُّ، أو علىٰ ما يريدُ، فيَنصِبَ لهم معنًى واحدًا، يجعلُه فرقانَ ما بين السّعادةِ والشّقاء، وميزانَ الولاءِ والبراءِ، بل يكونُ ربّانيًّا يَكِلُ كلَّ محسنٍ إلىٰ إحسانِه، ويرضىٰ مِن كلِّ عاملٍ بما عَمِل، ويَعلَمُ أنّ في ذٰلك الاختلافِ التّكامُلَ الّذي به حسنُ الخلافةِ في الأرضِ.
BY بوارق من الكتاب
Warning: Undefined variable $i in /var/www/group-telegram/post.php on line 260
Share with your friend now:
group-telegram.com/bawarik/127