Telegram Group & Telegram Channel
الخصومات الثقافية

طلال بن علي الجابري


 
حاول بعض الناس أن يثني  كاتبًا مكثرًا من الردود والتعقيبات ومتابعة الخصومات الفكرية والكلمات الذاتية والشخصية التي تظهر في جُمله وعباراته، ولكن الكاتب المُجد والمكثر في كتاباته لم ينثني ولم ينقطع، بل تعذّر بأنه لا يستطيع، وأظهر أن ذلك من أجل الحق، وأن بعض الناس لا ينفع معه إلا هذه الطريقة وهذا الأسلوب وتلك المخاشنة، وأن هذا مسلك للسلف أو بعضهم على الأقل.
والحقيقة كما يعلم ويرى ذلك ليست هذه المذكورات؛ وإنما الحقيقة = هي نفسيةٌ دافعةٌ، وتحريك وجداني يأزه أزًا، فلا يحرك كوامنه إلا الخصومات، فلو توقفت عنه أو توقف عنها لم يستطع أن يكتب شيئًا، فهو لا يكتب إلا بدافع الخصومات والمعارك = فلا تثقل عليه أيها الناصح المعاتب واتركه حتى ينقدح فكره وتنفجر أنهاره، ولكن ينبغي عليه بأن يتقي الله ما استطاع، وأن يهذب حديثه ما قدر، وأن يخفي الدافع ما استطاع ! .. وإلا فسبيل المحركات الوجدانية لبعض الناس والكوامن الداخلية لا يحركها من مرقدها ولا يبعثها من نومها إلا المشاحنات والتنافس والخصومات الثقافية ..
فابن حزم مثلا كانت لا تحركه إلا الخصومات والمباغضات فيما ذكر عن نفسه بكل صدق..
وأديبٌ معاصر كاد يتغنّى بالعداوة والمكاره وهو الأديب والدكاترة زكي مبارك في كتابه "رسالة الأديب"، وجعل دافع العداوة والكره هو الذي يمد دمه بفيض من قسوة الحديد، وأن العداوة هي أجل نعمة عليه في شحذ همة قلمه حيث قال: "إنّ الذين يعادونني لا يعرفون عواقب ما يصنعون، إنهم لا يعرفون أن العداوات تمد دمي بفيض من قسوة الحديد، إنهم يجهلون أن الهدوء يُفسد أمعائي ويحوجني إلى زيارة الطبيب، فأوغلوا ما شئتم في البغضاء فإن لي في ذلك مغانم كثيرة تصل على أيديكم بلا جزاء ولا ثواب".
لهذه الدرجة من "الفناء الثقافي" الموازي للفناء الصوفي في الشغف بالعداوة والرغبة في السادية الكتابية يصل مع هذا الأديب المكثر والذي أضحى اسمًا لامعًا في سماء الأدباء والكُتاب الكبار وتاريخًا ثقافيًا في ذاكرة الثقافة والأدب .. ويقول في شكر هذه النعمة: "فلله نعمة فى كل شيئ، ومن أجل نعمه على الأديب أن يخلق له من المكاره ما يوقظ حسه، ويرهف وجدانه ويقهر على حمل السيف، وقد جربت ذلك في نفسي وفي قلمي، وهل من القليل أن يشعر بأن حياته هول يقاسيه الخصوم في اليقضة والمنام!؟".
إن هذا الخُلق والرغبة في الكتابة بسبيل المنافسة واستشعار التحدي؛ يفسر بعض ما جرى ويجري بين العلماء وطلبة العلم في الكتابة والمتابعة وإثراء الموضوعات بما فتح الله عليهم وما انقدح من زند فكرهم بدافع التنافس والتحدي.
ومن مثل ذلك ما كان من تنافس علمي معرفي وجدلي بين محمد بن داود الظاهري وبين ابن سُريج، حيث كان لا يكاد ينقطع بينهم التنافس العلمي والجدل الفقهي و"عندما مات أبوبكر محمد بن داود الظاهري كان ابن سريج يكتب شيئًا فألقى الكراسة من يده وقال: مات من كنتُ أحثُ نفسي وأجهدُها على الإشتغال لمناظرته ومقاومته". (وفيات الأعيان لابن خلكان ٤/٢٦١).
وكذلك ما كان بين العلامة صديق حسن خان والعلامة محمد عبد الحي اللكنوي الهندي رحمهم الله جميعًا، والأخير كان حريصًا على عدم انقطاع المنافسة العلمية وعلى استمرارها، ويكشف تلك الحقيقة لما توفي العلامة عبد الحي اللكنوي، إذ تأسف السيد صديق حسن خان بموته تأسفًا شديدًا، وما أكل الطعام في تلك الليلة، وصلى عليه صلاة الغائب، وأمر بإغلاق بلدة "بهوبال" التي كان مَلِكَها ثلاثة أيام حُزنًا على الشيخ أبي الحسنات اللكنوي!! وقال: "اليوم مات ذوقُ العلم، وما كان بيننا من منافسات إنما كان للوقوف على مزيد من العلم والتحقيق". (الرفع والتكميل في الجرح التعديل للإمام اللكنوي تحقيق أبوغدة ص٣٨).
فلا تعجب من ذاك الدافع = الخصومات الثقافية، يقول ألفريد دي ميسيه يقول: "الألم هو الذي يصيرنا عظماء".



group-telegram.com/talal1391/1083
Create:
Last Update:

الخصومات الثقافية

طلال بن علي الجابري


 
حاول بعض الناس أن يثني  كاتبًا مكثرًا من الردود والتعقيبات ومتابعة الخصومات الفكرية والكلمات الذاتية والشخصية التي تظهر في جُمله وعباراته، ولكن الكاتب المُجد والمكثر في كتاباته لم ينثني ولم ينقطع، بل تعذّر بأنه لا يستطيع، وأظهر أن ذلك من أجل الحق، وأن بعض الناس لا ينفع معه إلا هذه الطريقة وهذا الأسلوب وتلك المخاشنة، وأن هذا مسلك للسلف أو بعضهم على الأقل.
والحقيقة كما يعلم ويرى ذلك ليست هذه المذكورات؛ وإنما الحقيقة = هي نفسيةٌ دافعةٌ، وتحريك وجداني يأزه أزًا، فلا يحرك كوامنه إلا الخصومات، فلو توقفت عنه أو توقف عنها لم يستطع أن يكتب شيئًا، فهو لا يكتب إلا بدافع الخصومات والمعارك = فلا تثقل عليه أيها الناصح المعاتب واتركه حتى ينقدح فكره وتنفجر أنهاره، ولكن ينبغي عليه بأن يتقي الله ما استطاع، وأن يهذب حديثه ما قدر، وأن يخفي الدافع ما استطاع ! .. وإلا فسبيل المحركات الوجدانية لبعض الناس والكوامن الداخلية لا يحركها من مرقدها ولا يبعثها من نومها إلا المشاحنات والتنافس والخصومات الثقافية ..
فابن حزم مثلا كانت لا تحركه إلا الخصومات والمباغضات فيما ذكر عن نفسه بكل صدق..
وأديبٌ معاصر كاد يتغنّى بالعداوة والمكاره وهو الأديب والدكاترة زكي مبارك في كتابه "رسالة الأديب"، وجعل دافع العداوة والكره هو الذي يمد دمه بفيض من قسوة الحديد، وأن العداوة هي أجل نعمة عليه في شحذ همة قلمه حيث قال: "إنّ الذين يعادونني لا يعرفون عواقب ما يصنعون، إنهم لا يعرفون أن العداوات تمد دمي بفيض من قسوة الحديد، إنهم يجهلون أن الهدوء يُفسد أمعائي ويحوجني إلى زيارة الطبيب، فأوغلوا ما شئتم في البغضاء فإن لي في ذلك مغانم كثيرة تصل على أيديكم بلا جزاء ولا ثواب".
لهذه الدرجة من "الفناء الثقافي" الموازي للفناء الصوفي في الشغف بالعداوة والرغبة في السادية الكتابية يصل مع هذا الأديب المكثر والذي أضحى اسمًا لامعًا في سماء الأدباء والكُتاب الكبار وتاريخًا ثقافيًا في ذاكرة الثقافة والأدب .. ويقول في شكر هذه النعمة: "فلله نعمة فى كل شيئ، ومن أجل نعمه على الأديب أن يخلق له من المكاره ما يوقظ حسه، ويرهف وجدانه ويقهر على حمل السيف، وقد جربت ذلك في نفسي وفي قلمي، وهل من القليل أن يشعر بأن حياته هول يقاسيه الخصوم في اليقضة والمنام!؟".
إن هذا الخُلق والرغبة في الكتابة بسبيل المنافسة واستشعار التحدي؛ يفسر بعض ما جرى ويجري بين العلماء وطلبة العلم في الكتابة والمتابعة وإثراء الموضوعات بما فتح الله عليهم وما انقدح من زند فكرهم بدافع التنافس والتحدي.
ومن مثل ذلك ما كان من تنافس علمي معرفي وجدلي بين محمد بن داود الظاهري وبين ابن سُريج، حيث كان لا يكاد ينقطع بينهم التنافس العلمي والجدل الفقهي و"عندما مات أبوبكر محمد بن داود الظاهري كان ابن سريج يكتب شيئًا فألقى الكراسة من يده وقال: مات من كنتُ أحثُ نفسي وأجهدُها على الإشتغال لمناظرته ومقاومته". (وفيات الأعيان لابن خلكان ٤/٢٦١).
وكذلك ما كان بين العلامة صديق حسن خان والعلامة محمد عبد الحي اللكنوي الهندي رحمهم الله جميعًا، والأخير كان حريصًا على عدم انقطاع المنافسة العلمية وعلى استمرارها، ويكشف تلك الحقيقة لما توفي العلامة عبد الحي اللكنوي، إذ تأسف السيد صديق حسن خان بموته تأسفًا شديدًا، وما أكل الطعام في تلك الليلة، وصلى عليه صلاة الغائب، وأمر بإغلاق بلدة "بهوبال" التي كان مَلِكَها ثلاثة أيام حُزنًا على الشيخ أبي الحسنات اللكنوي!! وقال: "اليوم مات ذوقُ العلم، وما كان بيننا من منافسات إنما كان للوقوف على مزيد من العلم والتحقيق". (الرفع والتكميل في الجرح التعديل للإمام اللكنوي تحقيق أبوغدة ص٣٨).
فلا تعجب من ذاك الدافع = الخصومات الثقافية، يقول ألفريد دي ميسيه يقول: "الألم هو الذي يصيرنا عظماء".

BY بوح القراءة


Warning: Undefined variable $i in /var/www/group-telegram/post.php on line 260

Share with your friend now:
group-telegram.com/talal1391/1083

View MORE
Open in Telegram


Telegram | DID YOU KNOW?

Date: |

Telegram was founded in 2013 by two Russian brothers, Nikolai and Pavel Durov. In this regard, Sebi collaborated with the Telecom Regulatory Authority of India (TRAI) to reduce the vulnerability of the securities market to manipulation through misuse of mass communication medium like bulk SMS. He said that since his platform does not have the capacity to check all channels, it may restrict some in Russia and Ukraine "for the duration of the conflict," but then reversed course hours later after many users complained that Telegram was an important source of information. The Security Service of Ukraine said in a tweet that it was able to effectively target Russian convoys near Kyiv because of messages sent to an official Telegram bot account called "STOP Russian War." Telegram has gained a reputation as the “secure” communications app in the post-Soviet states, but whenever you make choices about your digital security, it’s important to start by asking yourself, “What exactly am I securing? And who am I securing it from?” These questions should inform your decisions about whether you are using the right tool or platform for your digital security needs. Telegram is certainly not the most secure messaging app on the market right now. Its security model requires users to place a great deal of trust in Telegram’s ability to protect user data. For some users, this may be good enough for now. For others, it may be wiser to move to a different platform for certain kinds of high-risk communications.
from us


Telegram بوح القراءة
FROM American