لا تغفل عن هذا 🌧️🌱
ليس من سبيل الرشد أن تُعامِل أورادك التعبدية معاملة الأعمال اليومية التي تريد الفراغ منها، وتُحصيها كما تُحصي المهام في دفتر الإنجاز، فذلك ضربٌ من الغفلة يُذهب بركتها، ويطمس نورها. اجعلها رواءً لنفسك العطشى، وغذاءً لقلبك الظامئ، ونافذة تطلُّ منها روحك على ملكوت السماء. فإنما العبادة حضورٌ لا عادة، فإذا استحضرت في ركوعك الخضوع للمعبود، وفي تسبيحك عظمة الخالق، وفي دعائك لذة المناجاة، وفي تلاوتك جلال الرب سبحانه؛ رقَّ القلب، وانتعشت الروح، وزكت النفس، وانتفع العبد في دنياه وأخراه، وإذا وجدت في وردك معنى الحضور، ولامس قلبك نَفَس الذكر، فثمَّ نورٌ يورث الإيمان، وريحانٌ ينعش القلب، وتلك وربي هي العبادة التي تكون فيها التزكية.
فإنما العبادة روحٌ تُستروح، وغذاءٌ يُستبطن، وسرٌّ بينك وبين الله لا يُقاس بالكمّ ولا يُحصى بالأرقام.
ليس من سبيل الرشد أن تُعامِل أورادك التعبدية معاملة الأعمال اليومية التي تريد الفراغ منها، وتُحصيها كما تُحصي المهام في دفتر الإنجاز، فذلك ضربٌ من الغفلة يُذهب بركتها، ويطمس نورها. اجعلها رواءً لنفسك العطشى، وغذاءً لقلبك الظامئ، ونافذة تطلُّ منها روحك على ملكوت السماء. فإنما العبادة حضورٌ لا عادة، فإذا استحضرت في ركوعك الخضوع للمعبود، وفي تسبيحك عظمة الخالق، وفي دعائك لذة المناجاة، وفي تلاوتك جلال الرب سبحانه؛ رقَّ القلب، وانتعشت الروح، وزكت النفس، وانتفع العبد في دنياه وأخراه، وإذا وجدت في وردك معنى الحضور، ولامس قلبك نَفَس الذكر، فثمَّ نورٌ يورث الإيمان، وريحانٌ ينعش القلب، وتلك وربي هي العبادة التي تكون فيها التزكية.
فإنما العبادة روحٌ تُستروح، وغذاءٌ يُستبطن، وسرٌّ بينك وبين الله لا يُقاس بالكمّ ولا يُحصى بالأرقام.
Forwarded from قناة طلال الحسّان.
Media is too big
VIEW IN TELEGRAM
مفهومٌ يعينك على اغتنام هذه العشر 💡
" هذا كتاب ماتع نافع، ويظهر فيه عقل المؤلف وسعة صدره وأفقه، كما يظهر فيه خلقه ، فلا تجد عبارات موحشة
فقراءته نافعة للجميع، وليت الناس يكتبون بهذا النفس فيتربى القارئ على الأدب ويوسع صدره للخلاف ويجل العلماء وما بذلوا، وذكر المؤلف في أوله مقدمات مفيدة وبعبارات جميلة مسددة ويتخللها نصائح وفيما بين ذلك أبيات يبدو انها من نظمه، وقد أكثر منها.
وفيه أكثر من ١٠٠٠ مسألة، فهو جدير بالقراءة
وهذه النسخة الالكترونية قد أذن المؤلف جزاه الله خيرا بنشرها
والكتاب يباع بسعر مخفض".
منقول
فقراءته نافعة للجميع، وليت الناس يكتبون بهذا النفس فيتربى القارئ على الأدب ويوسع صدره للخلاف ويجل العلماء وما بذلوا، وذكر المؤلف في أوله مقدمات مفيدة وبعبارات جميلة مسددة ويتخللها نصائح وفيما بين ذلك أبيات يبدو انها من نظمه، وقد أكثر منها.
وفيه أكثر من ١٠٠٠ مسألة، فهو جدير بالقراءة
وهذه النسخة الالكترونية قد أذن المؤلف جزاه الله خيرا بنشرها
والكتاب يباع بسعر مخفض".
منقول
◉ العطاء العظيم 🌨️ 🌱
يوم عرفة خير يوم طلعت عليه الشمس، ودعاؤه خير الدعاء كما قال النبي ﷺ: (خير الدعاء دعاء يوم عرفة).
وحريٌ بالمسلم أن يُرتّب أدعيته وسؤالاته لربّه.
فأبواب الكرم الإلهي مُشرعة على مصراعيها تنتظر الداخلين.. ومن أمارات الصدق أن يتحرى العبد الأوقات الفاضلة والمواسم الشريفة، ويحرص عليها، فالله يحب الذي يتعرضون لنفحاته. لأن هذه المواطِن مما يُختبر بها يقين العبد، وحسن ظنّه بربه.
احصر احتياجاتك ومطالبك التي تريدها، وبالِغ في الافتقار إلى الله، والتذلل بين يديه..
واجعل هذا اليوم يوم الخضوع والتضرع والانكسار لله..
واعلم أن حلاوة الدعاء تتجلى حين توقن أن الله يسمع كل حرف تتفوه به..
ادخر حاجاتك وأمنياتك وأحلامك لهذا اليوم..
وأيقِنْ بربك الكريم، فهو سبحانه لن يخيّب ظن من أحسن الظن به، بل وسيدهشك بعطائه..
قدّم بين يدي دعائك ثناءً طويلًا على الله، وصدقة ولو باليسير.
وارفع سقف يقينك وثقتك بالله إلى ما لا نهايه، واجعل محط نظرك سعة کرم ربك وعظيم قدرته، لا صعوبة أحوالك وتعسّر أمورك ..
فما عليك إلا أن تدخل على ربّك دخول الواثق.
دخول من بسط يديه لينال جزيل الأعطيات ..
دخول من ألقى أحزانه وراءه ظهريًا، واستقبل كريم الهبات ..
وهذا كتيّب قصير، فيه ثمان دعوات نبوية جامعة، كتبتها لمن كثُرت عليه الأدعية وأراد منها مجموعة جامعة يواظب عليه ويلهج بها، وعلّقت عليها تعليقًا يسيرًا يُوضّح معانيها، ويُبيّن شيئًا من مقاصدها وفضائلها .
وأسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يتقبّل هذا العمل بقبول حسن، ويرزقنا فيه الإخلاص ويطرح له القبول، كما أسأله أن يجعله نافعًا للإسلام والمسلمين، وفاتحة خير في باب الدعاء والتضرع بين يدي الله.
يوم عرفة خير يوم طلعت عليه الشمس، ودعاؤه خير الدعاء كما قال النبي ﷺ: (خير الدعاء دعاء يوم عرفة).
وحريٌ بالمسلم أن يُرتّب أدعيته وسؤالاته لربّه.
فأبواب الكرم الإلهي مُشرعة على مصراعيها تنتظر الداخلين.. ومن أمارات الصدق أن يتحرى العبد الأوقات الفاضلة والمواسم الشريفة، ويحرص عليها، فالله يحب الذي يتعرضون لنفحاته. لأن هذه المواطِن مما يُختبر بها يقين العبد، وحسن ظنّه بربه.
احصر احتياجاتك ومطالبك التي تريدها، وبالِغ في الافتقار إلى الله، والتذلل بين يديه..
واجعل هذا اليوم يوم الخضوع والتضرع والانكسار لله..
واعلم أن حلاوة الدعاء تتجلى حين توقن أن الله يسمع كل حرف تتفوه به..
ادخر حاجاتك وأمنياتك وأحلامك لهذا اليوم..
وأيقِنْ بربك الكريم، فهو سبحانه لن يخيّب ظن من أحسن الظن به، بل وسيدهشك بعطائه..
قدّم بين يدي دعائك ثناءً طويلًا على الله، وصدقة ولو باليسير.
وارفع سقف يقينك وثقتك بالله إلى ما لا نهايه، واجعل محط نظرك سعة کرم ربك وعظيم قدرته، لا صعوبة أحوالك وتعسّر أمورك ..
فما عليك إلا أن تدخل على ربّك دخول الواثق.
دخول من بسط يديه لينال جزيل الأعطيات ..
دخول من ألقى أحزانه وراءه ظهريًا، واستقبل كريم الهبات ..
وهذا كتيّب قصير، فيه ثمان دعوات نبوية جامعة، كتبتها لمن كثُرت عليه الأدعية وأراد منها مجموعة جامعة يواظب عليه ويلهج بها، وعلّقت عليها تعليقًا يسيرًا يُوضّح معانيها، ويُبيّن شيئًا من مقاصدها وفضائلها .
وأسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يتقبّل هذا العمل بقبول حسن، ويرزقنا فيه الإخلاص ويطرح له القبول، كما أسأله أن يجعله نافعًا للإسلام والمسلمين، وفاتحة خير في باب الدعاء والتضرع بين يدي الله.
السعادة بين الرضا والقناعة 🌱🌧️
السعادة ليست كنزًا مخبوءًا في قاع البحار، ولا جوهرة مكنونة في خزائن الأثرياء، ولا غاية تُنال بكثرة المتاع وتزاحم المظاهر؛ بل هي شعور خفيٌّ يسري في النفس كما تسري الروح في الجسد، لا يُدرك إلا بالإحساس، ولا يُستجلب إلا بالقناعة والرضا.
كم من إنسان تفيض خزائنه بالمال، ويمتد سلطانه في الأرض، وتحفّه مظاهر المجد، ثم هو مع ذلك شقيٌّ منكود!
وكم من آخر لا يملك من الدنيا إلا قوت يومه، ولا يتوسّد إلا أملًا رقيقًا، ولا يتوسّل في الحياة إلا قلبًا رضِيًّا، ومع هذا هو أسعد الناس!
ذلك لأن السعادة لا تكمن في كثرة الممتلكات، ولا في التفاخر بالمظاهر الزائلة، ولكن في التحرر من رقّ الحاجة إليها.
وقف سقراط، حكيم الفلاسفة، أمام متجرٍ عامرٍ بأنواع السلع، فنظر مليًّا، ثم قال كلمته الخالدة: “ما أكثر الأشياء التي لا أحتاج إليها!”
كلمة صغيرة، ولكنها تفيض حكمة، وتحمل في طياتها فلسفة عميقة، جعلها فلاسفة الإغريق شعارًا لهم، لأنها تعكس جوهر السعادة: *وأنها بالاكتفاء، لا بالامتلاك؛ وبالرضا، لا بالتطلّع؛ وبالزهد، لا بالشره والاستشراف.*
إن السعادة ليست غاية بعيدة لا تُنال، ولا أملًا مستحيلًا لا يُدرك؛ بل هي في متناول كل من شاء، إذا عرف كيف يقنع، وكيف يرضى، وكيف يغضّ بصره عن زينة الحياة وزخارفها، فلا يمدّ عينه إلى ما متّع الله به غيره، ولا يقيس نصيبه في الدنيا بنصيب الناس.
والسعادة لها مذاق في كل مرحلة من مراحل الحياة: فأنت شابٌ، ما دام قلبك موصولًا بالأمل، وروحك مشتعلة بالحماسة، وعينك لا تزال تبصر النور في نهاية الطريق، ولو كنت في السبعين! وأنت شيخ، مهما كنت في مقتبل العمر، إذا فقدت الأمل، وخمدت فيك جذوة الحياة، وأعرضت عن نور الرجاء.
فالشباب شباب الروح، والكهولة كهولة القلب، وما العمر إلا صفحات نكتبها بمشاعرنا لا بأرقامنا.
ومن تمام السعادة أن نتشارك فيها مع غيرنا، وأن لا نجعلها حِجرًا محجورًا على أنفسنا، فإن من أعظم صور السعادة: أن ترى أثر ابتسامتك على وجه يتيم، أو دفءَ يدك في يد محتاج، أو نورًا تسريه في صدرٍ أظلمته الهموم، وجميل بك أن لا تنسى من حولك حين تطلب سعادتك، وأن لا تغفل عن حقوق الآخرين وأنت تطلب حقوقك
والعجيب أن السعادة تُقبل على من يتسامى عنها، وينشغل عنها بمعاني الحياة، ولا يكثر من سؤال نفسه هل أنا سعيد أم لا؟ قال الرافعي: “وكما يفقد أكثر الناس السعادة في كثرة الاستعداد لها، والإغراق في وسائلها، يجدها بعضهم في إهمالها، حين لا يبحث عنها ويذهب باحثًا عن حقيقة الحياة.”
وأصدق الناس سعادة من امتلأ قلبه بالإيمان بالله، والمعرفة به، واطمأنَّ لقضاء الله، ورضي بما قُسم له، وسعى في دنياه سعي العاقل، لا سعي المرهق اللاهث.
ألا وإن من أعظم أسباب الشقاء: أن يجمع المرء بين ضعف القدرات، وشطط الطموحات، فيعذب نفسه برغبات لا يبلغها، ويجرّعها كؤوس الحسرة على ما لم يخلق له.
فاملك رضاك، تمتلك سعادتك، واغرس في قلبك الأمل، يثمر فيك البهجة، وامشِ في الأرض رحيمًا متفائلًا قانعًا بما قسم الله لك، تكن وإن قلّ حظك من الدنيا أسعد أهلها.
السعادة ليست كنزًا مخبوءًا في قاع البحار، ولا جوهرة مكنونة في خزائن الأثرياء، ولا غاية تُنال بكثرة المتاع وتزاحم المظاهر؛ بل هي شعور خفيٌّ يسري في النفس كما تسري الروح في الجسد، لا يُدرك إلا بالإحساس، ولا يُستجلب إلا بالقناعة والرضا.
كم من إنسان تفيض خزائنه بالمال، ويمتد سلطانه في الأرض، وتحفّه مظاهر المجد، ثم هو مع ذلك شقيٌّ منكود!
وكم من آخر لا يملك من الدنيا إلا قوت يومه، ولا يتوسّد إلا أملًا رقيقًا، ولا يتوسّل في الحياة إلا قلبًا رضِيًّا، ومع هذا هو أسعد الناس!
ذلك لأن السعادة لا تكمن في كثرة الممتلكات، ولا في التفاخر بالمظاهر الزائلة، ولكن في التحرر من رقّ الحاجة إليها.
وقف سقراط، حكيم الفلاسفة، أمام متجرٍ عامرٍ بأنواع السلع، فنظر مليًّا، ثم قال كلمته الخالدة: “ما أكثر الأشياء التي لا أحتاج إليها!”
كلمة صغيرة، ولكنها تفيض حكمة، وتحمل في طياتها فلسفة عميقة، جعلها فلاسفة الإغريق شعارًا لهم، لأنها تعكس جوهر السعادة: *وأنها بالاكتفاء، لا بالامتلاك؛ وبالرضا، لا بالتطلّع؛ وبالزهد، لا بالشره والاستشراف.*
إن السعادة ليست غاية بعيدة لا تُنال، ولا أملًا مستحيلًا لا يُدرك؛ بل هي في متناول كل من شاء، إذا عرف كيف يقنع، وكيف يرضى، وكيف يغضّ بصره عن زينة الحياة وزخارفها، فلا يمدّ عينه إلى ما متّع الله به غيره، ولا يقيس نصيبه في الدنيا بنصيب الناس.
والسعادة لها مذاق في كل مرحلة من مراحل الحياة: فأنت شابٌ، ما دام قلبك موصولًا بالأمل، وروحك مشتعلة بالحماسة، وعينك لا تزال تبصر النور في نهاية الطريق، ولو كنت في السبعين! وأنت شيخ، مهما كنت في مقتبل العمر، إذا فقدت الأمل، وخمدت فيك جذوة الحياة، وأعرضت عن نور الرجاء.
فالشباب شباب الروح، والكهولة كهولة القلب، وما العمر إلا صفحات نكتبها بمشاعرنا لا بأرقامنا.
ومن تمام السعادة أن نتشارك فيها مع غيرنا، وأن لا نجعلها حِجرًا محجورًا على أنفسنا، فإن من أعظم صور السعادة: أن ترى أثر ابتسامتك على وجه يتيم، أو دفءَ يدك في يد محتاج، أو نورًا تسريه في صدرٍ أظلمته الهموم، وجميل بك أن لا تنسى من حولك حين تطلب سعادتك، وأن لا تغفل عن حقوق الآخرين وأنت تطلب حقوقك
والعجيب أن السعادة تُقبل على من يتسامى عنها، وينشغل عنها بمعاني الحياة، ولا يكثر من سؤال نفسه هل أنا سعيد أم لا؟ قال الرافعي: “وكما يفقد أكثر الناس السعادة في كثرة الاستعداد لها، والإغراق في وسائلها، يجدها بعضهم في إهمالها، حين لا يبحث عنها ويذهب باحثًا عن حقيقة الحياة.”
وأصدق الناس سعادة من امتلأ قلبه بالإيمان بالله، والمعرفة به، واطمأنَّ لقضاء الله، ورضي بما قُسم له، وسعى في دنياه سعي العاقل، لا سعي المرهق اللاهث.
ألا وإن من أعظم أسباب الشقاء: أن يجمع المرء بين ضعف القدرات، وشطط الطموحات، فيعذب نفسه برغبات لا يبلغها، ويجرّعها كؤوس الحسرة على ما لم يخلق له.
فاملك رضاك، تمتلك سعادتك، واغرس في قلبك الأمل، يثمر فيك البهجة، وامشِ في الأرض رحيمًا متفائلًا قانعًا بما قسم الله لك، تكن وإن قلّ حظك من الدنيا أسعد أهلها.
في ضرورة الهداية والسداد ✨🎯
كل لحظة تمر من عمر المرء، هي في حقيقتها امتحان دقيق لمعنى الهداية، وكأنّ الدنيا كلها ليست إلا طريقاً متعرّجاً بين ضلالات وغوايات، وسالكه لا نجاة له إلا بأن يعتصم بحبل الله المتين.
ولقد بلغ الأنبياء عليهم السلام الغاية العظمى من الفقه لأنهم لم يكونوا يرون في أنفسهم غنى عن ربهم طرفة عين؛ بل كانوا في كل نفَس من أنفاسهم، يستمدّون الهداية من ربهم، ويفتقرون إليه، ويأوون إلى ركنه الشديد، فكانوا بحق هداةً ومهديّين.
فما أحرانا ـ نحن أبناء العجز والقصور ـ أن نُديم قرع باب السماء، ونسأل الله هدايةً نسير بها على الصراط، وسدادًا نقيم به خطانا على الجادة، كما كان الأنبياء ـ وهم أئمة الهدى ـ يلوذون بالله آناء الليل وأطراف النهار، مستشعرين الفقر التام إليه في كل نبضةٍ من نبضات قلوبهم، وفي كل خطرةٍ من خواطرهم.
فنحن في دنيا مزروعةٌ بالأهواء، محفوفةٌ بالفتن، تضل فيها البصائر كما تضل الأبصار في الليل البهيم، فلا مخرج لنا منها إلا أن نتعلق بالله تعلق الغريق بخشبة النجاة، فهو القائل سبحانه: (ومن يعتصم بالله فقد هُدي إلى صراط مستقيم).
والهداية ـ وإن حسبها الناس أمراً واحدًا طبقاتٌ ومراتب، وأعلاها: السداد. ولأجل ذلك، كانت وصية النبي ﷺ لعلي بن أبي طالب أن يقول: (اللهم اهدني وسددني).
يا لها من كلمات وجيزة، تفتح أبواب الخير لمن عقل معناها، جامعةً لأعظم مطلوبين، دالةً على أن الهداية لا تُنال دفعةً واحدة، وإنما تُكتسب بالمواظبة، وتُطلب بالحاح، ويُرتقى إليها زلفةً زلفة، كلما أخلص العبد في الدعاء، وصدق في التوجه إلى ربّه.
و الهداية إذا نزلت، ساقت الخير بعضه إلى بعض كما يسوق النهر ماءه إلى الزرع، فإذا به يُورق ويُثمر.
والعبد إذا ذاق طعم هذه الهدايات في يومه، علم أن الله يقوده بلطف، وأن خصلةً من الخير لا تأتي وحيدة، بل تجرّ أختها من ورائها، فالهداية لا تمشي في الأرض وحدها، إنما تمشي بجيش من البركات والألطاف والتوفيق.
كم من يوم طلعت عليك شمسه، وقد ساقت لك رحمة الله فيه من أبواب الهداية ما لا تحتسب؛ لا لأنك أعددت لها متكئًا، بل لأن الله ساقها إليك بمحض فضله، تسمع موعظة فتحرّك فيك ساكن القلب، أو تقع عينك على آية تهز وجدانك، أو تلتقي برجل صالح يشدّك من يدك فيسير بك إلى برّ، أو عملاً لم تحتسبه فإذا هو باب من أبواب الجنة. فيحيي فيك جذوة الإيمان، وتُحاط في يومك بأسباب الخير، حتى تحسّ في نفسك أنك ستصافح الملائكة في الطرقات. وما ذاك إلا أن الله ساق إليك هدايات متعاقبة، كل واحدة منها تُسلمك إلى أختها، حتى كأنك تمشي في طريقٍ مرصوفٍ بالرحمة.
وما أعظم أن يلهج اللسان بدعوة نبي الله موسى: (رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري). فهي مفتاح التيسير، ومجلبة التوفيق.
وكم من صدر ضاق بما رحب، ثم اتسع بدعوة خفية في جوف الليل!
وكم من عزمٍ كان كالجبل، فإذا هو ينهار بين يدي القضاء، أو يصرفه الله عنك صرفاً، ولقد أحسن ذلك الأعرابي أيما إحسان بإجابته حين سئل: "بِمَ عرفت ربك؟" قال: "بصرف الهمم ونقض العزائم". وهي كلمة لو تدبرها القلب لعلم أن كل ما في الوجود من عزيمة أو فتور، من إقبال أو إدبار، هو بيد الله، يُقلبه كيف يشاء، لا تملك النفس لنفسها نفعًا ولا ضراً إلا بإذنه.
أجل، إن الناس في ميزان الله صنفان: موفق ومخذول، وكم من امرئ كان في أمسِه مقبلًا على العلم والعبادة، ثم أصبح في لهو وغفلة! وكم من قلبٍ كان يعيش في أنس القرآن ثم قسا. وكم من نفسٍ كانت قرة عينها في الصلاة ثم انقبضت عنها!
وإنك لترى الرجل بالأمس يعمر مجالس الذكر، ويلوذ بحلقات العلم، فإذا به اليوم في التيه، ضلّ بعد هدى، وسقط من شرف الحال إلى حضيض الغفلة. وآخر، كان بالأمس غافلًا بعيدًا، فإذا به اليوم في طمأنينة الإيمان، يُقبل على الخير كأنما كان مولوداً له. وكم من بعيدٍ عن الخير إذا به يُقبل، وكم من تائهٍ في طرق الهوى قد قاده الله إلى باب الرحمة، ففتح له، وأدخله في أنوار الهداية، فما لبث أن صار من المقربين!
واحذر ثم احذر أن تُخدع ببقاء الحال، فإن من الناس من كان بالأمس في رياض الإيمان، يُنشد العلم، ويُجالس الصالحين، فإذا هو اليوم في وحشةٍ وغفلة، لا يكاد يذكر من ماضيه إلا الحسرات. وآخر، كان في بيداء الجهالة، فهُدي إلى مجالس النور، وأشرق في صدره قبس من الهداية، فما لبث أن صار من أهل السداد.
فاحذر أن تكون ممن سلب الله منهم نعمة الإقبال، بعد أن ذاقوا برد الإيمان، وعرفوا لذة الهداية، ثم أعرضوا، فحيل بينهم وبين ما يشتهون.
وإذا أقبلت عليك نسمات الخير، ورأيت من نفسك حبًا للطاعة، وانشراحًا للصالحات، وانقباضًا عن المحرمات، فلا تكن كمن يستروح بها وهو غافل؛ بل احمد الله أن ساقها إليك، وقيّدها بطوق الشكر، فإنّ لله نعمًا تمشي إلى عباده، فإن لم يلتفتوا لها بالشكر، ولّت عنهم، فإنّ نعم الله تُربط بالشكر، وتُفرّ إذا غفل العبد عن حارسها.
كل لحظة تمر من عمر المرء، هي في حقيقتها امتحان دقيق لمعنى الهداية، وكأنّ الدنيا كلها ليست إلا طريقاً متعرّجاً بين ضلالات وغوايات، وسالكه لا نجاة له إلا بأن يعتصم بحبل الله المتين.
ولقد بلغ الأنبياء عليهم السلام الغاية العظمى من الفقه لأنهم لم يكونوا يرون في أنفسهم غنى عن ربهم طرفة عين؛ بل كانوا في كل نفَس من أنفاسهم، يستمدّون الهداية من ربهم، ويفتقرون إليه، ويأوون إلى ركنه الشديد، فكانوا بحق هداةً ومهديّين.
فما أحرانا ـ نحن أبناء العجز والقصور ـ أن نُديم قرع باب السماء، ونسأل الله هدايةً نسير بها على الصراط، وسدادًا نقيم به خطانا على الجادة، كما كان الأنبياء ـ وهم أئمة الهدى ـ يلوذون بالله آناء الليل وأطراف النهار، مستشعرين الفقر التام إليه في كل نبضةٍ من نبضات قلوبهم، وفي كل خطرةٍ من خواطرهم.
فنحن في دنيا مزروعةٌ بالأهواء، محفوفةٌ بالفتن، تضل فيها البصائر كما تضل الأبصار في الليل البهيم، فلا مخرج لنا منها إلا أن نتعلق بالله تعلق الغريق بخشبة النجاة، فهو القائل سبحانه: (ومن يعتصم بالله فقد هُدي إلى صراط مستقيم).
والهداية ـ وإن حسبها الناس أمراً واحدًا طبقاتٌ ومراتب، وأعلاها: السداد. ولأجل ذلك، كانت وصية النبي ﷺ لعلي بن أبي طالب أن يقول: (اللهم اهدني وسددني).
يا لها من كلمات وجيزة، تفتح أبواب الخير لمن عقل معناها، جامعةً لأعظم مطلوبين، دالةً على أن الهداية لا تُنال دفعةً واحدة، وإنما تُكتسب بالمواظبة، وتُطلب بالحاح، ويُرتقى إليها زلفةً زلفة، كلما أخلص العبد في الدعاء، وصدق في التوجه إلى ربّه.
و الهداية إذا نزلت، ساقت الخير بعضه إلى بعض كما يسوق النهر ماءه إلى الزرع، فإذا به يُورق ويُثمر.
والعبد إذا ذاق طعم هذه الهدايات في يومه، علم أن الله يقوده بلطف، وأن خصلةً من الخير لا تأتي وحيدة، بل تجرّ أختها من ورائها، فالهداية لا تمشي في الأرض وحدها، إنما تمشي بجيش من البركات والألطاف والتوفيق.
كم من يوم طلعت عليك شمسه، وقد ساقت لك رحمة الله فيه من أبواب الهداية ما لا تحتسب؛ لا لأنك أعددت لها متكئًا، بل لأن الله ساقها إليك بمحض فضله، تسمع موعظة فتحرّك فيك ساكن القلب، أو تقع عينك على آية تهز وجدانك، أو تلتقي برجل صالح يشدّك من يدك فيسير بك إلى برّ، أو عملاً لم تحتسبه فإذا هو باب من أبواب الجنة. فيحيي فيك جذوة الإيمان، وتُحاط في يومك بأسباب الخير، حتى تحسّ في نفسك أنك ستصافح الملائكة في الطرقات. وما ذاك إلا أن الله ساق إليك هدايات متعاقبة، كل واحدة منها تُسلمك إلى أختها، حتى كأنك تمشي في طريقٍ مرصوفٍ بالرحمة.
وما أعظم أن يلهج اللسان بدعوة نبي الله موسى: (رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري). فهي مفتاح التيسير، ومجلبة التوفيق.
وكم من صدر ضاق بما رحب، ثم اتسع بدعوة خفية في جوف الليل!
وكم من عزمٍ كان كالجبل، فإذا هو ينهار بين يدي القضاء، أو يصرفه الله عنك صرفاً، ولقد أحسن ذلك الأعرابي أيما إحسان بإجابته حين سئل: "بِمَ عرفت ربك؟" قال: "بصرف الهمم ونقض العزائم". وهي كلمة لو تدبرها القلب لعلم أن كل ما في الوجود من عزيمة أو فتور، من إقبال أو إدبار، هو بيد الله، يُقلبه كيف يشاء، لا تملك النفس لنفسها نفعًا ولا ضراً إلا بإذنه.
أجل، إن الناس في ميزان الله صنفان: موفق ومخذول، وكم من امرئ كان في أمسِه مقبلًا على العلم والعبادة، ثم أصبح في لهو وغفلة! وكم من قلبٍ كان يعيش في أنس القرآن ثم قسا. وكم من نفسٍ كانت قرة عينها في الصلاة ثم انقبضت عنها!
وإنك لترى الرجل بالأمس يعمر مجالس الذكر، ويلوذ بحلقات العلم، فإذا به اليوم في التيه، ضلّ بعد هدى، وسقط من شرف الحال إلى حضيض الغفلة. وآخر، كان بالأمس غافلًا بعيدًا، فإذا به اليوم في طمأنينة الإيمان، يُقبل على الخير كأنما كان مولوداً له. وكم من بعيدٍ عن الخير إذا به يُقبل، وكم من تائهٍ في طرق الهوى قد قاده الله إلى باب الرحمة، ففتح له، وأدخله في أنوار الهداية، فما لبث أن صار من المقربين!
واحذر ثم احذر أن تُخدع ببقاء الحال، فإن من الناس من كان بالأمس في رياض الإيمان، يُنشد العلم، ويُجالس الصالحين، فإذا هو اليوم في وحشةٍ وغفلة، لا يكاد يذكر من ماضيه إلا الحسرات. وآخر، كان في بيداء الجهالة، فهُدي إلى مجالس النور، وأشرق في صدره قبس من الهداية، فما لبث أن صار من أهل السداد.
فاحذر أن تكون ممن سلب الله منهم نعمة الإقبال، بعد أن ذاقوا برد الإيمان، وعرفوا لذة الهداية، ثم أعرضوا، فحيل بينهم وبين ما يشتهون.
وإذا أقبلت عليك نسمات الخير، ورأيت من نفسك حبًا للطاعة، وانشراحًا للصالحات، وانقباضًا عن المحرمات، فلا تكن كمن يستروح بها وهو غافل؛ بل احمد الله أن ساقها إليك، وقيّدها بطوق الشكر، فإنّ لله نعمًا تمشي إلى عباده، فإن لم يلتفتوا لها بالشكر، ولّت عنهم، فإنّ نعم الله تُربط بالشكر، وتُفرّ إذا غفل العبد عن حارسها.
مدرسة الليل 🌧️🌱
ما أجمل وصية ذلك الرجل الصالح لابنه حينما قال له: " يا بنيّ، إنك لن تكون شيئًا حتى تكون لك أنّةٌ في الأسحار، ودمعةٌ بين يدي العزيز الجبار".
نعم، فما ترقى أحدٌ في معارج الإيمان، ولا بلغ ذُروة الكمال، إلا وقد خاض غمار الليل، وسجد حين هجَع النُّوَّام، وناجى ربَّه في سكون الأنام.
إن الليل هو موضع السر من القلب، ومهبط الرحمة، ومستودع نجوى الأولياء، ففي جوف الليل مائدة السماوات، لا يأوي إليها إلا من كان له عند الله سرٌّ.
وقيام الليل، هو غسل النفس من أدران النهار، وهو كفّارة الذنب الجاثم على القلب، وهو الميدان الذي تُعرف فيه مراتب القرب، وتُوزن فيه منازل العارفين. وقد كانوا يستدلّون على محبة الله لعبده، بتوفيقه لقيام الليل، حتى جاء في بعض الآثار أن الله ينادي كل ليلة: "يا جبريل، أقم فلانًا وأَنِم فلانًا".
والليل هو الميدان الذي يُبتلى فيه الصادقون، ويُفرز فيه المخلصون، وتُنسج فيه حبال القُرب بين العبد ومولاه. ولذا كان قيام الليل، مغتسلٌ باردٌ يطفئ جمرات الذنب، ومسلكٌ وضيءٌ يسلكه أرباب العزائم، ومفتاحٌ من مفاتيح القرب، لا يحمله إلا من طهّر قلبه من الرِّياء، وملأه بالرجاء والخشية واليقين.
كم من عبدٍ سجد في الليلِ، فاستيقظ على بشارةٍ من السماء، فيها إجابة ذلك الدعاء، وتحققُ تلك الأمنية التي ناجى الله بها في ظلمته وخلوته.
فهنا المحاريبٌ التي تصنع الرجال، والمقامات التي تُسكب لأجلها العبرات، يا لها من ركعات يسيرة لكنها عند الله عزيزة؛ تهز أبواب السماء حتى تُفتح، وتنقلك من مقام إلى مقام حتى يُقال لك: قد أوتيتَ سُؤلك.
ومن ثبت في ظلمة الليل ساجدًا، أثبته الله في فتن النهار قائمًا، وكيف يقدر الشيطان على قلبٍ قد بكى بين يدي مولاه، وسكب عند عتبته خطاياه، وأحاط إيمانه بسور نفحات الأسحار؟
أجل، إن قيام الليل ليس عملاً يُؤدَّى، ووِردًا يُقضى، بل هو منزلةٌ يُرتقى إليها، فمتى وفّقك الله للقيام، فقد أهدى إليك مفتاح القرب، فإياك أن تُغلقه بمعاصيك. سئل الحسنَ أقوامٌ أنهم لم يستطيعوا قيام الليل كما كانوا، فقال: "قيَّدتكم الذنوب".
هو جزاءُ النهار للصالحين، ومكافأةُ الطاعة للمؤمنين، قال سليمان الداراني: "من أحسن في نهاره، كوفئ في ليله، ومن أحسن في ليله، كوفئ في نهاره".
وفي ثلث الليل الأخير، ساعةً يفيض فيها الله على عباده من جوده، ويقرّبهم من فضله، ويناديهم نداء الحُب والمغفرة، فطوبى لمن سمع النداء، فأجابه قلبه قبل أذنه، وسجدت جوارحه قبل أن تنهض قدماه.
فأشرف الخلوات، وأسمى المجالس، وأرفع المقامات، هي تلك التي ينفرد فيها العبد بمولاه، يناجيه بمقلةٍ دامعة، وقلبٍ خاشع، ولسانٍ ذاكر.
أتعلم أن خلوتك بربك في الثلث الأخير أعظم من ألف حضور في المجامع. وإذا أردت أن تعرف مقامك فانظر فيما أقامك، فذاك هو الوقت الذي يأذن فيه الملوك لأحبتهم للخلوة بهم، أما أهل الغفلة والمخالفة فليسوا لهذا المقام بأهل، فما يؤهَّل أهل القرب لخلوة الملوك إلا إذا أخلصوا ودّهم، وصدقوا في صحبتهم، كما قال ابن رجب: "فما يؤهّل الملوك للخلوة بهم إلا من أخلص في ودّهم، وأما من كان من أهل المخالفة فلا يؤهّلونه".
أما إني والله لست من أهل ما سبق، ولكن لا أجمع على نفسي التركين؛ ترك العمل وترك التذكير به. فكم من ناصحٍ ينسج الثوبَ لغيره، وثيابه تمزّقها المعصية!
أَسْتَغْفِرُ اللهَ مِنْ قَوْلٍ بِلاَ عَمَلٍ
لقد نَسَبْتُ به نَسْلاً لِذِي عُقُمِ
أَمَرْتُكَ الخَيْرَ لكنْ ما ائْتَمَرْتُ به
وما اسْتَقَمْتُ فما قَوْلِي لَكَ: اسْتَقِمِ.
ما أجمل وصية ذلك الرجل الصالح لابنه حينما قال له: " يا بنيّ، إنك لن تكون شيئًا حتى تكون لك أنّةٌ في الأسحار، ودمعةٌ بين يدي العزيز الجبار".
نعم، فما ترقى أحدٌ في معارج الإيمان، ولا بلغ ذُروة الكمال، إلا وقد خاض غمار الليل، وسجد حين هجَع النُّوَّام، وناجى ربَّه في سكون الأنام.
إن الليل هو موضع السر من القلب، ومهبط الرحمة، ومستودع نجوى الأولياء، ففي جوف الليل مائدة السماوات، لا يأوي إليها إلا من كان له عند الله سرٌّ.
وقيام الليل، هو غسل النفس من أدران النهار، وهو كفّارة الذنب الجاثم على القلب، وهو الميدان الذي تُعرف فيه مراتب القرب، وتُوزن فيه منازل العارفين. وقد كانوا يستدلّون على محبة الله لعبده، بتوفيقه لقيام الليل، حتى جاء في بعض الآثار أن الله ينادي كل ليلة: "يا جبريل، أقم فلانًا وأَنِم فلانًا".
والليل هو الميدان الذي يُبتلى فيه الصادقون، ويُفرز فيه المخلصون، وتُنسج فيه حبال القُرب بين العبد ومولاه. ولذا كان قيام الليل، مغتسلٌ باردٌ يطفئ جمرات الذنب، ومسلكٌ وضيءٌ يسلكه أرباب العزائم، ومفتاحٌ من مفاتيح القرب، لا يحمله إلا من طهّر قلبه من الرِّياء، وملأه بالرجاء والخشية واليقين.
كم من عبدٍ سجد في الليلِ، فاستيقظ على بشارةٍ من السماء، فيها إجابة ذلك الدعاء، وتحققُ تلك الأمنية التي ناجى الله بها في ظلمته وخلوته.
فهنا المحاريبٌ التي تصنع الرجال، والمقامات التي تُسكب لأجلها العبرات، يا لها من ركعات يسيرة لكنها عند الله عزيزة؛ تهز أبواب السماء حتى تُفتح، وتنقلك من مقام إلى مقام حتى يُقال لك: قد أوتيتَ سُؤلك.
ومن ثبت في ظلمة الليل ساجدًا، أثبته الله في فتن النهار قائمًا، وكيف يقدر الشيطان على قلبٍ قد بكى بين يدي مولاه، وسكب عند عتبته خطاياه، وأحاط إيمانه بسور نفحات الأسحار؟
أجل، إن قيام الليل ليس عملاً يُؤدَّى، ووِردًا يُقضى، بل هو منزلةٌ يُرتقى إليها، فمتى وفّقك الله للقيام، فقد أهدى إليك مفتاح القرب، فإياك أن تُغلقه بمعاصيك. سئل الحسنَ أقوامٌ أنهم لم يستطيعوا قيام الليل كما كانوا، فقال: "قيَّدتكم الذنوب".
هو جزاءُ النهار للصالحين، ومكافأةُ الطاعة للمؤمنين، قال سليمان الداراني: "من أحسن في نهاره، كوفئ في ليله، ومن أحسن في ليله، كوفئ في نهاره".
وفي ثلث الليل الأخير، ساعةً يفيض فيها الله على عباده من جوده، ويقرّبهم من فضله، ويناديهم نداء الحُب والمغفرة، فطوبى لمن سمع النداء، فأجابه قلبه قبل أذنه، وسجدت جوارحه قبل أن تنهض قدماه.
فأشرف الخلوات، وأسمى المجالس، وأرفع المقامات، هي تلك التي ينفرد فيها العبد بمولاه، يناجيه بمقلةٍ دامعة، وقلبٍ خاشع، ولسانٍ ذاكر.
أتعلم أن خلوتك بربك في الثلث الأخير أعظم من ألف حضور في المجامع. وإذا أردت أن تعرف مقامك فانظر فيما أقامك، فذاك هو الوقت الذي يأذن فيه الملوك لأحبتهم للخلوة بهم، أما أهل الغفلة والمخالفة فليسوا لهذا المقام بأهل، فما يؤهَّل أهل القرب لخلوة الملوك إلا إذا أخلصوا ودّهم، وصدقوا في صحبتهم، كما قال ابن رجب: "فما يؤهّل الملوك للخلوة بهم إلا من أخلص في ودّهم، وأما من كان من أهل المخالفة فلا يؤهّلونه".
أما إني والله لست من أهل ما سبق، ولكن لا أجمع على نفسي التركين؛ ترك العمل وترك التذكير به. فكم من ناصحٍ ينسج الثوبَ لغيره، وثيابه تمزّقها المعصية!
أَسْتَغْفِرُ اللهَ مِنْ قَوْلٍ بِلاَ عَمَلٍ
لقد نَسَبْتُ به نَسْلاً لِذِي عُقُمِ
أَمَرْتُكَ الخَيْرَ لكنْ ما ائْتَمَرْتُ به
وما اسْتَقَمْتُ فما قَوْلِي لَكَ: اسْتَقِمِ.