Telegram Group Search
قول الله سبحانه: ﴿يوم يفرُّ المرءُ مِن أخيه وأمّه وأبيه وصاحبتِه وبنيه لكلِّ امرئٍ منهم يومئذٍ شأنٌ يغنيه﴾، قطع اللهُ عن الإنسان جميعَ الأسباب يومَ القِيامةِ، وبدَأ بسبَب النّصرةِ والنَّجدةِ والظَّهر الّذي يجده مِن أخيه والمعونة والرِّفد، وبه تسلمُ نفسُه وتصلح معيشتُه، ثمّ ذكَر سبَب الرّحمةِ والحنان والعطاءِ والبِرِّ والإكرام الّذي يجده بوالديه، وبه تعتدلُ روحُه، ثمّ ختَم بسببِ العطفِ والحبّ والرّعايةِ الّذي يصلُه بأهلِه وولدِه، وبه تسكُن نفسُه، وكانتْ هذه أصولَ علائقِ النّاسِ، فقد انقطعت يومَ القيامة، كما قال اللهُ في الآية الأخرىٰ: ﴿فإذا نُفِخ في الصُّور فلا أنسابَ بينهم يومئذٍ ولا يتساءلون﴾، فلم يبقَ إلّا ما قدَّم الإنسان لنفسِه مِن عملٍ صالحٍ، وكان كلُّ امرئٍ يومئذٍ في شغلٍ يغنيه عن النّاس، ونظَرٍ في زادِه ومعاده!

اللهم لطفًا بنا، وسيرورةً إليك، ومعونةً منك وحدك، منك مبدؤُها وإليك منتهاها ...
قولُ الله سبحانه عن المتّقين: ﴿قالوا إنّا كنّا قبلُ في أهلِنا مشفقين فمَنّ اللهُ علينا ووقانا عذابَ السَّموم إنّا كنّا مِن قبلُ ندعوه أنّه هو البَرُّ الرّحيم﴾ فيه ما ينبغي لمَن أراد الدّرجات العُلا مِن كثرةِ التّعرُّضِ لها، ودوام التّعلُّق بها، ودعاء الله أن يُؤتيَها، وأنّه يعينُ علىٰ ذٰلك خشيةُ فقدِها، وأنّ الشَّفَقةَ والخوفَ إذا لم يصحبْهما عملٌ وسعيٌ حثيثٌ كانا يأسًا وقُنوطًا، واللهُ لا يحبُّ مِن عبادِه اليأسَ ولا القنوطَ، وإنّما يريدُ الخوفَ الّذي يحرِّكُ للعملِ، وهو الخوفُ المحفوفُ بنسائمِ الرّجاء، وبهما يعتدلُ المسير.

وهٰذا المعنىٰ وُكِّد في آخر السّورة، عندما قال الله لنبيِّه: ﴿واصبِرْ لحكمِ ربِّك فإنّك بأعيُنِنا وسبِّحْ بحمدِ ربِّك حينَ تقومُ ومِن اللّيلِ فسبِّحْه وإدبارَ النُّجوم﴾، فأخبره إخبارًا وكَّده أنّه بعينِ اللهِ، وعلى اطّلاعٍ منه، وتحت رعايتِه سبحانه، وهٰذا مِن أعلىٰ ما يكونُ مِن الحُظوةِ الكريمة، فجعَل كفاءَها أن يصبـرَ لما يَنزلُ به مِن أحكامِ الله، وما يُجري عليه مِن أقدارِه، وأن يكونَ راضيًا بها، ساكنًا إليها، لأنّها راجعةٌ إلىٰ مقتضىٰ علمِه سبحانه وحكمتِه وإحاطتِه ورعايتِه، وجعَل التّفريعَ بالخبَر: ﴿فإنّك بأعيننا﴾ علّةً لوجوبِ الصَّبر، أنّه لا مَناصَ له منه، وقرَن بالأمرِ بالصَّبر الأمرَ بالذّكر، وجعَله يتجدَّدُ بتجدُّد الأحوالِ، وتقلُّب اللّيلِ والنّهار، فأعطىٰ ذٰلك أنّه يريدُه كثيرًا، فإنّ ذٰلك هو الّذي يبلِّغُ مقامَ حراسةِ الله وتكريمِه.

وفي معنىٰ هٰذه الآيات: حديثُ ربيعةَ بنِ كعبٍ الأَسلَميّ قال: كنت أبيتُ مع رسولِ اللهِ ﷺ، فأتيتُه بوَضوئِه وحاجتِه، فقال لي: «سَلْ»، فقلت: أسألُك مرافقَتك في الجنّةِ، قال: «أوْ غيرَ ذٰلك»؟ قلتُ: هو ذاك، قال: «فأَعِنِّي علىٰ نفسِك بكثرةِ السّجود»، أخرجه مسلم (489)، فنبَّهه علىٰ أنّ مثلَ هٰذا المقامِ لا بدَّ أن يتحقَّق مَن أراده بشرطِه، وليس مِن الأمانِيِّ الّتي تُبذَلُ بلا سبَبٍ، وأنّ كثرةَ السّجودِ وإخضاعَ الجسمِ لله وتمريغَ الوجهِ لجلالِه سبحانه، مِن أرجىٰ ما تُستنزَلُ به البَرَكاتُ، وتُرفَعُ به الدَّرجاتُ، وتُنجَزُ به الحوائجُ وتُقضَى اللُّبانات، فجعَل ذٰلك معونةً للنّبيِّ ﷺ علىٰ نفسِ السّائلِ، لأنّ النّبيَّ ﷺ يشفعُ له عند الله، ويدعوه أن يكونَ ممّن يرافقُه، ولكن ذٰلك لا يكفي ولا يبلِّغُ إلّا أن يجتهدَ السّائلُ بكثرةِ الإلحاحِ على الله، وكثرةِ السّجودِ له. ودلّ علىٰ مزيّةِ السّجودِ أيضًا ما أخرجه مسلمٌ قبل ذٰلك الحديث (488) عن مَعْدانَ بنِ أبي طلحةَ اليَعمَريِّ قال: لقيتُ ثَوبانَ مولىٰ رسولِ اللهِ ﷺ، فقلتُ: أخبرني بعملٍ يُدخِلُني اللهُ به الجنّةَ، أو قال: قلتُ: بأحبِّ الأعمالِ إلى اللهِ، فسَكت، ثمّ سألتُه فسَكَت، ثمّ سألتُه الثّالثةَ فقال: سألتُ عن ذٰلك رسولَ اللهِ ﷺ فقال: «عليك بكثرةِ السُّجودِ لله، فإنّك لا تسجُدُ للهِ سجدةً إلّا رفَعك بها درجةً وحَطَّ عنك بها خطيئةً»، قال مَعدانُ: فلقيتُ أبا الدّرداءِ فسألتُه فقال لي مثلَ ما قال لي ثوبانُ. وأصلُ هٰذا ما في كتابِ اللهِ مِن التّنويه بالسّجودِ له، مثلُ قولِه في مطالعِ ما حلَّىٰ عبادَ الرّحمٰن: ﴿والّذين يبيتون لربِّهم سجّدًا وقيامًا﴾، وقولِه: ﴿إنّ الّذين عند ربِّك لا يستكبرون عن عبادتِه ويسبّحونه وله يسجدون﴾، ﴿ألم تر أنّ اللهَ يسجُدُ له مَن في السّماوات ومَن في الأرضِ والشّمسُ والقمرُ والنّجومُ والجبالُ والشَّجَرُ والدّوابُّ وكثيرٌ مِن النّاسِ﴾، ﴿إنّ الّذين أوتوا العلمَ مِن قبلِه إذا يُتلىٰ عليهم يخرّون للأذقان سجّدًا ويقولون سبحان ربِّنا إن كان وعدُ ربِّنا لمفعولًا﴾، وآيات أخر.

وإذا عُطِف هٰذا المعنى المقرَّر علىٰ صدرِ السّورةِ وما فيه مِن التّخويفِ بعذابِ الله، وأنّه واقعٌ لا مدفَعَ له ... عُلِم طريقُ النّجاةِ منه، ووجهُ المَخلَصِ، أنّه كثرةُ الإقبالِ على اللهِ، والاجتهادُ في طاعتِه سبحانه.

والحاصلُ مِن هٰذه الأنوارِ الكريمةِ أنّ المقاماتِ العليّةَ لا تؤتىٰ بمجرَّدِ الحظوظِ، بل لا بدَّ أن تُبتغىٰ بالجهدِ والتّعبِ والنَّصبِ.

فليعتبر بذٰلك طالبُ العلم، وطالبُ العمل، وطالبُ الجنّة، وطالبُ المزيّة.
قول الله تعالىٰ: ﴿يا أيُّها الّذين آمنوا إذا لقيتم فئةً فاثبُتوا واذكروا اللهَ كثيرًا لعلّكم تفلحون﴾ أمَرهم بكثرةِ ذكرِه في ذٰلك المَقام الّذي تطيشُ فيه الأحلام، وهٰذا شيءٌ ممّا تحارُ فيه الألبابُ ما لم تتأمَّل عِلَله، وتتلطَّف في استخراجِ أسرارِه، ومَن تدبَّره وجَده أَولىٰ شيءٍ يفعلُه المؤمنُ عند لقاءِ العدوِّ، وأحظىٰ شيءٍ بثباتِه وظَفَرِه، ولذٰلك وجوهٌ جليلةٌ:

منها: أنّ مَن آثَر اللهَ في وقتِ الحاجةِ أَنجَز له حاجتَه، وأغناه عن غيرِه، وقد قضى اللهُ بذكرِ مَن ذكَره، فقال اللهُ سبحانه: ﴿فاذكُرُوني أذكركم﴾، وإذا ذكَر اللهُ عبدَه: أيَّده وقوّاه، فكان في ذكرِ العبدِ لربِّه معونةٌ له مِن اللهِ وتأييدٌ، وتثبيتٌ له وتسديدٌ، قال ابنُ عطيّة: «إنّ كثرةَ ذكر اللهِ عصمةُ المستنجِد، ووزَرُ المستعينِ».

ومنها: أنّ ذكرَ اللهِ باللّسانِ والإكثارَ منه يعودُ إلى القلبِ منه عائدٌ بالتّعهُّدِ والتّثبيت، فيشحذُ الهمَّ، ويجمعُ العزمَ، ويحرّك النّفس، ويوحِّدُ الغايةَ، ويعيِّنُ الهدَف، ويذكِّرُ بالحقِّ الحقيقِ، ويمنعُ التّولّيَ، ويثبِّت القدمَ، ومَن ذكَر اللهَ، واستحضَرَ حقَّه في ذٰلك الموطِنِ، فإنّه لا ريبَ يهونُ عليه أن يبذُلَ نفسَه في سبيلِه، وأن يقتحمَ لا يخافُ عدوًّا، ولا يصدُّه منه شيءٌ.

وليس شيءٌ أعونَ على المضيِّ والاقتحامِ: مِن إلهابِ الحماسةِ، وإذكاءِ العزيمة، ولا يفعلُ ذٰلك إلّا تذكُّرُ الحقوقِ، والذَّمَرُ للذِّمامِ، والّذي يؤدّي ذٰلك هو الذِّكرُ، وذكرُ اللهِ سيِّدُ الذّكر، وقد كان مِن مزاعمِ الشُّعراءِ قولُ الحماسيِّ:

ذكَرتُكِ والخَطِّيُّ يَخطِرُ بيننا
وقد نَهِلتْ منه المُثقَّفةُ السُّمْرُ

فكان في ذكرِ اللهِ معونةٌ على الثّباتِ الّذي أمَرهم اللهُ به، وسبحانَ مَن يأمُرُ بما منه مَبدؤُه، وإليه مرجعُه سبحانه، إيّاه نعبدُ وإيّاه نستعينُ.

ومنها: أنّ ذكرَ اللهِ هو الّذي يسكِّن النّفوسَ، ويَمنِحُها الأمَنةَ، كما قال اللهُ: ﴿ألا بذكر اللهِ تطمئنُّ القلوبُ﴾، وأحوجُ موضعٍ إلى الطُّمأنينةِ ذٰلك الموضعُ، وإذا اطمأنّ الإنسانُ وثبَت منه الجَنانُ، رأىٰ عدوَّه علىٰ حالِه الّتي هو عليها، وأمكنه أن يعاملَه بمكيدةِ الحرب، وأن يأتيَه مِن الفُروج، وأن يُدخِل عليه الوهن، ويهزمه.

ومنها: أنّ في ذكرِ الله قوّةَ البدنِ، وجمومَ النّفسِ، كما في سؤالِ فاطمةَ عليها السّلامُ النّبيَّ ﷺ خادِمًا، فقال لها ولعليٍّ: «ألا أعلّمكما خيرًا ممّا سألتُماني؟ إذا أخَذتُّما مضاجعَكما أن تكبِّرا أربعًا وثلاثين، وتسبِّحا ثلاثًا وثلاثين، وتحمِّدا ثلاثًا وثلاثين، فهو خيرٌ لكما مِن خادِمٍ» [متّفق عليه مِن حديث عليّ، البخاريّ (3705) ومسلم (2727)]. وأحوجُ موطنٍ إلى اجتماعِ القوّةِ، وتمامِ القدرةِ: ساحةُ الوغىٰ، فأراد اللهُ لعبادِه أن يذكروه فيقوّيَ أبدانَهم.

ومنها: أنّ الذّكرَ شاملٌ للدّعاءِ والاستغفارِ، وكثيرٌ مِن الأذكارِ الواردةِ متضمّنةٌ أدعيةً واستغفارًا كثيرًا، فدخَل في ذٰلك أن يُدعى اللهُ سبحانه بالثّبات، والنّصر، والظَّفَر، والأجر، وهٰذا قد أظهره اللهُ علىٰ ألسنةِ بعضِ مَن نوَّه بهم في كتابِه، كقولِه: ﴿ولمّا برَزوا لجالوتَ وجنودِه قالوا ربَّنا أفرغْ علينا صبـرًا وثبِّتْ أقدامَنا وانصُرْنا على القومِ الكافرين فهزَموهم بإذنِ اللهِ﴾، ودخَل في ذٰلك أن يُستغفَرَ اللهُ، ليتوبَ ويؤيّد وينصرَ ويذهبَ دغَل القلب، كما قال اللهُ عن الرّبّيّين: ﴿وما كان قولَهم إلّا أن قالوا ربَّنا اغفرْ لنا ذنوبَنا وإسرافَنا في أمرِنا وثبِّتْ أقدامَنا وانصرْنا على القومِ الكافرين فآتاهم اللهُ ثوابَ الدُّنيا وحسنَ ثوابِ الآخرة واللهُ يحبُّ المحسنين﴾. وهٰذا الوجهُ عليه مَدارُ كلامِ المفسِّرين.

وقد رغب اللهُ لعبادِه أن يذكروه إذا كانوا علىٰ منزلٍ مِن العدوّ، وصلَّوا صلاةَ الخوفِ، وتلك حالٌ كهٰذه الحالِ أو أقربُ، فقال: ﴿فإذا قضَيتم الصّلاةَ فاذكروا الله قيامًا وقعودًا وعلىٰ جنوبكم﴾، وبيّن في هٰذا كيف يكونُ الذّكرُ كثيرًا.

والله أعلم.
بوارق من الكتاب
Voice message
الله أكبر
بوارق من الكتاب
Voice message
حفظكما الله
2025/03/09 14:58:32
Back to Top
HTML Embed Code: